الحج يحث على إعادة التفكير في الكثير من المفاهيم بل انه يساعدنا على إعادة ترتيب الأفكار، وغالبا ما أفكر في هذه الشعيرة السنوية من الناحية العمرانية وما تفرضه من تحديات مكانية وبشرية تزيد عاما بعد عام، ولكوني معماريا ومخططا، غالبا ما تتجاذبني الصورة المادية المرتبطة بالحج وما تعنيه من واقع يتطلب التعامل معه بمفهوم التخطيط العمراني المباشر، فنحن أمام حشد كبير من الناس، في مكان محدود في وقت محدد، ويجب على كل من نوى الحج وتواجد في المكان أن يؤدي هذه الفريضة التي تقتضي "التنقل" والحركة، كل هذه التحديات تجعلني دائما أعود للقرآن وأحاول أن أفهم معنى "المكان"، وكيف ينظر القرآن للشكل المكاني وارتباطه بالزمن والتوقيت، والحقيقة أنني لاحظت أن المكان يرتبط بالزمن في الحج فقط، بينما تبقى كل الأمكنة الأخرى مفتوحة "زمنيا". الظاهرة العمرانية الزمنية الوحيدة هي شعيرة الحج وهي ظاهرة مليئة بالتحدي وبالحاجة إلى ابتكار وسائل ومفاهيم جديدة في التخطيط العمراني. ومع ذلك لا بد أن أقول ان مفهوم المكان في القرآن "متشعب" ويقتضي تطوير روابط فكرية بين الإطروحات القرآنية "الفلسفية" لظاهرة المكان العامة والخاصة، ولعل أهم تلك الظواهر هي "الاتجاه". في العمارة يمثل الاتجاه Orientation بداية التفكير في البيئة العمرانية المادية، فنحن لا نتصور "المكان" دون اتجاه، وتوجيه، ودون علاقة مع الظواهر الكونية المحيطة بنا مثل حركة الشمس والقمر وكلها ذات ارتباط بالاتجاه. قال تعالى: "قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" (الشعراء: 28)، وقوله تعالى "وَلِلَّهِ الْمَشرِقُ وَالْمَغْرِبُ" (البقرة: 115)، وقد أكد الزميل الدكتور عبدالله القاضي في دراسة مهمة كيف تحول الاتجاه من الشرق إلى الشمال. والذي يظهر لي أن المكان في حد ذاته لا يمكن "تعريفه" وفهمه دون اتجاه، قال تعالى: "رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ " (الرحمن: 17)، ويقول تعالى: "فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ" (المعارج: 40)، وهذا التعدد للمشارق والمغارب يحتاج إلى دراسة خاصة وفهم أكثر لمفهوم "الاتجاه" وما يعنيه في القرآن الكريم. ومن الواضح أن الاتجاه له أهمية كبيرة في تحديد المكان ومفاهيمه، وأن الله أعطى البشر هذه الخاصية حتى يستطيعوا تحديد مكانهم في الكون، فالأرض نفسها تسبح في الكون الواسع وتحديد الاتجاه فيها يتم بما حولها، فالشيء بالشيء يعرف، والاتجاه أساسا ينشأ من خلال علاقة الأرض بالشمس، وفي القرآن الكريم إشارة لذلك والاعجاز الإلهي المرتبط به كقوله تعالى: "قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " (البقرة: 258). هذا جعلني أفكر في القبلة كاتجاه، وهي كذلك، يقول الله تعالى "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (البقرة: 142)، وقوله تعالى "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " (البقرة: 177)، وقوله تعالى: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ" (البقرة: 144). والحقيقة يكفي التوقف عند "القبلة" كاتجاه وتأثيرها المكاني العميق على المدينة العربية والاسلامية، فقد شكل اتجاه القبلة دائما عنصرا مكانيا أساسيا تغلغل حتى في المعنى اللغوي في الثقافة العربية فعندما يقال "قبلة" بمعنى اتجاه القبلة وهو هنا يختلف في الجزيرة العربية والشرق الذي يعني اتجاه الغرب عن الشام وتركيا الذي يعني الجنوب وعن مصر والمغرب العربي الذي يعني عنده الشرق واليمن الذي يشير إلى الشمال. ولكن ما علاقة الاتجاه بالحج وبالمشاعر كأماكن وفضاءات مرتبطة بالتوقيت أكثر من الاتجاه. ما خطر في ذهني هو تعدد مفهوم المكان في القرآن الكريم وتنوع العلاقات والتحديات التي يفرضها، وهذا في حد ذاته جدير بالملاحظة. لقد توقفت كثيرا عند مفهوم المكان في الحج، وسألت نفسي عن السبب الذي تم التحديد فيه أماكن بمساحات محدودة (المشاعر) لتكون مجال شعائر الحج، وقلت في نفسي ان الناس يزيد عددها كل عام والمكان سيظل على مساحته لن يتغير فكيف سيكون الحل في المستقبل. مفهوم المكان في الحج مثير ويستحق التفكير وأذكر أنني تناولت الفكرة في هذه الصحيفة في السابق ولكن في سياق التعرف على المكان "القرآني" الذي أشار اليه القرآن الكريم، وهذه المقالة محاولة الاستكمال الفكرة بمنظور آخر. فالتحدي الذي يطرحه الحج هو: المكان المحدود في زمن محدد، وهذا تحد يجعل من تصورنا للمكان مرتبطا بالفترة الزمنية التي يصبح فيها المكان مشغولا بالناس، فقيمته الوظيفية هي قيمة "زمنية" وإلا يفقد معنى التحدي لمحدودية المساحة. هذه الأسئلة جعلتني أفكر كثيرا في "المكان القرآني" و"المكان العمراني"، فكما أن القرآن يطرح مفهوم المكان بشكل عام ويقدمه كمفهوم وفكرة كذلك العمارة تنظر للمكان كمجال مادي لممارسة الوظائف والأنشطة يتقاطع فيها البشر ويتفاعلون ويبنون حضارتهم. الحج تجربة مصغرة لالتقاء المكان القرآني "المفهومي" والمكان العمراني "المادي" و"التوقيت" الذي يجعل من المفهوم للمكان مقدسا في وقت محدد ويفرض تحدياته على المكان المادي بقوة ويجعله يصطدم بالواقع. في البداية الحج مرتبط بالتوقيت والزمن، يقول الله تعالى: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ " (البقرة: 197)، ويقول الله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ" (البقرة: 189)، والتحديد هنا مسألة مهمة وأساسية وإلا يصبح "التحدي المكاني" غير موجود. كما أن طبيعة النشاطات في الحج تقتضي التحرك في توقيت معين من مكان لآخر في مساحة ضيقة ومحدودة فكيف يمكن تحريك ملايين البشر في ساعات قليلة هي "مواقيت الحج" ودونها لا تتم الشعيرة. يقول الله تعالى: "فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ" (البقرة: 198)، ويقول الله تعالى: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا" (البقرة: 158). والحقيقة أن في التفكير في التحديات المكانية التي يفرضها الحج سوف نجد أنها مرتبطة بالتحدي الزمني الذي يجب أن تتم فيه شعيرة الحج، وهذا في حد ذاته يفرض علينا منهجا تخطيطيا مختلفا. ما أود أن أذكره هنا أن الحج هو ظاهرة مكانية/زمنية خاصة جدا وهي درس عمراني وإداري عميق يجب أن نتعلم منه وأن نؤسس عليه كثيرا من مفاهيمنا التخطيطية والعمرانية، فنظرة متأنية للحج سوف تقدم لنا الكثير من الدروس.