ينتبه العالم الآن إلى الحساسية الجديدة التى يضفيها الأدب الياباني على الأدب الإنساني، ويشارك بها فى تكوين وعى جمالى جديد ينتقل بالذائقة الفنية من حالة الضرورة إلى آفاق الحرية. منذ منتصف الستينات واللغات الأوروبية "بالذات الإنجليزية والفرنسية" تهتم اهتماما خاصاً بالأدب الياباني بكافة اتجاهاته، القديمة والحديثة، حيث تثير دهشة الأوروبي تلك القيم والمعايير التى تنفي المجرد، وتبتعد عن العبث، وتختص بأحياء الروابط الإنسانية، وتلك القيم التى تمجد السلف، وترتقى بالشهامة، وتجسد التضحية، وخلق المثال المكلف بالإحساس بالرجولة، وتمجيد الوطن إلى حد الفناء فيه. تعرفنا سالفا على كواباتا ويوكيويشيما.. الأول انتحر بسبب معايشته لأزمة روحية تنشغل بالعلاقة بين الماضى العظيم والحداثة الطارئة، والثاني انتحر على طريقة الساموراى بعد هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية. اهتم من جاء بعد هذين الرائدين بتلك القيم... جيل من الأدباء كان فاعلا في الستينات من أمثال شوساكواندر.. كنز أبورو أوى.. تتزاكى وغيرهم. فى السبعينات تفاجئنا اليابان بتقديم عدد من الكاتبات والكتاب أدهشوا العالم، ويمثلون قطيعة مع الأدب فى الماضى، بل ويقدمون رؤى مغايرة تماما عما سلف فى أدب الرواد. كتابات شابة، شديدة الرهافة، تمتلك تصورا جديدا للحياة في اليابان وفى العالم، قادرة على التعبير عن متغيرات الوجود الانساني في جدليته مع الآخر الحاضر فى الواقع اليومي، وداخل بنية ثقافة تتأثر بذلك الجدل. كيوزومى وياسوتاناكا وهاروك موركامى، وبعدهم يوكو اوغاوا وبنانا يوشوموتو، والاخيرتان تعكس كتابتهما تلك الحساسية الجديدة باقتدار، وتنقد رؤاهما الفنية إلى تلك المنطقة القادرة على اكتشاف العنف في الحياة اليومية وتقدم ذلك العنف الرمزى لتواجها من خلال اهوال الحياة وأهوال الموت. قدمت يوكو اوغاوا روايات "حوض السباحة".. "النحل"... "الجمل".. ثم الرواية التى نعرضها "غرفة مثالية لرجل مريض. ولدت أوغاوا فى العام 1962.. عند نشر روايتها "حوض السباحة" أثارت الانتباه، ولفتت الانظار وسط الكتابات الجديدة فى اليابان، وبطريقتها السردية واختيار أسلوبها الشعرى – اليومى، ونفاذها الحاد إلى عمق شخصياتها الانسانية، ولقد خطيت طريقتها استحسانا كبيرا على مستوى اليابان، وبكافة البلاد واللغات التى ترجمت اليها. فى أعمال "أوغاوا" تتبع للمصير الانساني، ومحاولة الاجابة عما لا يمكن الاجابة عنه.. الوجود والكائن والمصير.. حيز من زمان ملتبس وظلال في زمن رمادى وشتاء، ومحاولة دائمة لاكتشاف الذات الانسانية من خلال الألم. تغوص كتابات اوغاوا فى أرواح شخصياتها، وتتبع مصيرها الانساني والتعرف عن معنى وجود الكائن فى حيز من زمان ومكان محددين. ويشكل الماضى فى اعمال هذه الكاتبة "ذلك الماضى الذى لم يعد منهلا للحنين، والأفكار التى لم تعد ذريعة للسرد الروائي " كما يقول المترجم الراحل الشاعر بسام حجار. فى الرواية البديعة "غرفة مثالية لرجل مريض" حالة امرأة تعرف بأن أخاها الوحيد محكوم عليه بالموت بسبب من مرض لعين، وأنها سوف تلازمه فى غرفة احد المستشفيات حتى ترى رحيله رويدا رويدا " كان بياضه ناصعا كأن كل خلية من خلايا بشرته تشف حتى يرى من خلالها. وكانت حزينة وقلقة لمجرد الظن بأن تلك الشفافية ستواصل انتشارها وتكسو جسمه كله حتى يموت جسمه فعلا وكأنه ينتحر. فضاء للرعب عبر صفحات النص، ومواجهة غير متكافئة للموت، داخل حجرة بيضاء شديدة النظافة متألقة مثل فردوس، وعبر هذا الشتاء الرازح فى كل الأنحاء بثلجه، وسقوط أوراق أشجاره، وممرات المستشفي الخالية إلا من خطوات بائسة وحيدة، وأخت تعانى هجران الزوج وتحمل ألمها فى قلبها مثل تميمة تظهره أحوال أخيها المنتظر للموت، وصوت يدوى آتيا من أبدية ثابتة لا رد لها، والمرأة الشابة تحاول لملمة روح أخيها المنكسرة مثل أطباق الخزف، مواسية ومحبه، يزلزلها صوته: - سوف أموت جاهلا أمورا شتى. لن أقدر حتى أن أخوض تجربة الزواج. وقتى لن يتسع لذلك. من كان ليحسب أننى سأموت قبل اختبار علاقة مع امرأة. كانت تقاوم فناءها هي، وتتشبث بذلك الطيب الشاب الذى تعرفت عليه، وواعدته "لم يكن فى نظري عشيقا، لم يكن زوجاً مجرداً أو رفيق صبا. فلا وجود لماض بيننا، ولا مستقبل، فقط كنت أحتاج لقوة جسده لأقاوم بها فناء أخى". نص جديد يهتم بالتفاصيل التى تنشغل باستمرار بالحياة، ويزدهم بذلك الشغف والحنين لوجود ملتبس وغامض، وجود نسيجة نحن بالرغم من سيطرة مأساة رحيل الأخ الذى تودعه قائلة "موت فتى فى الحادية والعشرين من عمره أمر يصعب تخيله. فى السن التى لا تعرف إلا أقل الأوامر مع الموت" ترجمة للصديق الشاعر "بسام حجار" تقترب باقتدار من ذلك الأفق من الشعر، تلملم الأشياء الصغيرة وتقدمها فى سرد بليغ يختص بالإنسان وأحوال الإنسان.