الروايات القديمة تحكي لنا "إن الطير والوحش كانت تصغي إلى صوت النبي داود، والسبعين نغمة التي كانت تصدرها حنجرته، وكان من يسمعه يغمى عليه من الطرب". وقال الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين (من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج.. ليس له علاج). وتقريباً الموسيقى هي نشاط صاحب استقرار وتمدن الإنسان في المجتمعات الزراعية، وكان للعرب والمسلمين تاريخ طويل برفقتها، قال ابن خلدون: «مازال فن الغناء يتدرج عند العرب حتى كمُل أيام بني العباس». فالعالم المسلم يعقوب الكندي أدرك الأثر الإيجابي للموسيقى على جميع نواحي الروح ومنها الناحية الاستشفائية العلاجية، وحاول علاج صبي مشلول شللاً رباعيًا بالموسيقى. وكان (الشيخ الرئيس ابن سينا) يدرج الموسيقى والغناء في عداد الأدوية التي يعالج بها الحميات، ويقول خير تمارين العافية الغناء. وعلى امتداد تاريخ الحضارة الإسلامية كان للموسيقى دورها ومكانتها مع الإيمان بقدرتها العلاجية للجانب الروحي، ففي عهد الدولة الزنكية مثلاً كانت توقف الأوقاف لدفع أجور الموسيقيين الذين يعزفزن للمرضى في بيمارستانات حلب الشهباء. وما أثبته العلماء والأطباء المسلمون القدماء بالممارسة أثبته الآن العلم الحديث بالتجربة، بعد أن اكتشفوا أن ذبذبات الموسيقى تؤثر تأثيراً مباشراً على الجهاز العصبي، إذ يمكن لكل ذبذبة أو أكثر أن تؤثر على جزء ما بالمخ، متصل بالأعصاب ومنها بالحواس، فتنعشها وتهدئها بالقدر الذي يتيح له فرصة الاسترخاء، واستجماع الإرادة، للتغلب على مسببات الألم، فيبدأ الجسم في تنشيط المضادات الطبيعية والإفرازات الداخلية التي تساعد الجهاز المناعي وغيره على التغلب على مصدر الداء ومكانه. وفي ألمانيا التي هي الآن الأولى في مجال الطب على المستوى العالمي نجد بعض المستشفيات يضعون سماعات للموسيقى حول آذان المواليد (الخدج) لأن التجارب أثبتت أن هذا يساعد على نموهم واستعادة عافيتهم وقدرتهم على التأقلم مع العالم الخارجي بصورة أسرع من أقرانهم الذين لم يستمعوا إلى الموسيقى. بالنسبة لنا مر يوم (21) يونيو (اليوم العالمي للموسيقى) ولم نشارك العالم اللغة التي يتقنها ويفهمها الجميع، ومع الأسف لم يبال به أحد على الرغم من تاريخنا الموغل والمزدان بالفعل المموسق، لاسيما في حاضرات الخلافة وعصور تمدنها وازدهارها حيث تتبدى الموسيقى كأبرز انعكاسات الفعل الحضاري مع ارتباطها بعلوم الرياضيات والعمارة والفلك والفيزياء. مر اليوم علينا ولم نسمع بأي نشاط موسيقي أقامته وكالة وزارة الثقافة، أو جمعية الثقافة والفنون، ولو من باب حفظ التراث الموسيقي لدينا من الاندثار والإهمال، ولو شاركت تلك المؤسسات الثقافية بأي نشاط موسيقي في احتفالات ومهرجانات الصيف لأضفت ألقاً وحيوية على تلك المهرجانات، ولضاعفت زوارها من محبي الموسيقي الذي يضطرون لاستقلال الطائرات للدول المجاورة للاستماع لمطربهم المفضل. صمت مطبق رافق يوم الموسيقى العالمي، عدا عن مقطع يتداوله الناس على جوالاتهم لمشهد أحدهم، وهو يحطم آلة العود أمام مجموعة من الفتية المهللين المكبرين. التحطيم والتدمير والزعيق والإزالة هو فعل خارج عن السلوك الحضاري، وقد قطعت البشرية أشواطاً كبيرة منذ زمن سكان الكهوف لتتجاوز السلوكيات المتوحشة العنيفة، وما الرسالة الممرة للأبناء الذين يشاهدون.. منظر تدمير العود وتحطيمه..؟ وتناثر شظاياه على المسرح.. ببساطة كانت الرسالة المختصرة.. كل ما لايعجبك.. دمره بوحشية. فإذا اختارت فئة التفسير المتشدد في تحديد علاقتها مع الموسيقى أو تفسيرها فإن هناك عدداً كبيراً آخر من علماء العلوم الشرعية قد أباحوها.. شرط ألا تذهب في مسالك الفجور والتهتك. الموسيقى غابت في يومها وهي غائبة طوال العام، بل هي طريدة ومنفية، على حين كانت هي إحدى أهم ملامح مراكزنا الحضارية عبر التاريخ. مر يوم الموسيقى بصمت وإهمال متعمد.. لماذا؟