إن المطلوب اليوم هو مزيد من الدعم الدولي والإقليمي للصومال، من أجل أن يبدأ مسيرة البناء الاقتصادي والاجتماعي، ويصبح عضواً فاعلاً في محيطه، وعامل تعزيز للأمن والاستقرار على مستوى المنطقة والعالم عقد في العاصمة البريطانية لندن، في السابع من أيار مايو 2013، المؤتمر الدولي حول الصومال، بمشاركة نحو 50 شخصية من دول ومؤسسات إقليمية ودولية مختلفة. وقد هدف المؤتمر إلى بحث سبل دعم الحكومة الصومالية، في مجالات إصلاح النظام القضائي، وقطاع الأمن، والإدارة المالية العامة، وتعزيز القدرات الخاصة بالجيش والشرطة، وترسيخ المصالحة الوطنية، وبناء الاستقرار. وفي كلمة له في المؤتمر، قال الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، إن الصومال حصل على فرصة لإثبات قدرته على أن يكون بلداً مستقراً ومتنوعاً، وملتزماً بالقانون. وهذه هي "بداية الصومال الجديد". وقال الرئيس الصومالي: "نحتاج إلى دعم ومساعدة واستثمارات وحماية... لم تتمكن أي دولة من النهوض وحدها من مثل هذا الانهيار الاقتصادي والاجتماعي". وفي ختام المؤتمر، تعهدت بريطانيا بنحو 180 مليون جنيه إسترليني (279 مليون دولار)، كما قدمت الولاياتالمتحدة 40 مليون دولار بخلاف 1.5 مليار دولار قدمتها منذ العام 2009، حيث أصبحت واشنطن منذ ذلك الحين أكبر داعم عالمي للدولة الصومالية. وبالنسبة لبريطانيا، جرى تخصيص جزء من الأموال المقررة من أجل رفع عديد قوات الأمن إلى نحو 12 ألف فرد. وخصصت أموال أخرى لتدريب قضاة، وتأسيس محاكم متنقلة تجوب المناطق التي ينعدم فيها تطبيق القانون. وكانت لندن قد استضافت العام الماضي مؤتمراً حول الصومال، تعهد خلاله المشاركون بالعمل على "إرساء الأمن والاستقرار" في البلاد. والصومال دولة غارقة في عجز مالي واقتصادي هائل، يصل إلى درجة العوز، معطوفاً على غياب مديد للأمن والاستقرار. وقبل فترة وجيزة، أظهرت بيانات للبنك الدولي أن الديون المتأخرة على الصومال بلغت نحو 2.2 مليار دولار في العام 2010، وهو مبلغ زهيد بالمقاييس الدولية، لكنه يصبح كبيراً عندما تشير التوقعات إلى أن إيرادات الدولة الصومالية ستبلغ 54 مليون دولار فقط في العام 2013. وهذا المبلغ يعادل إيرادات بلدية قرية لا يزيد سكانها على ألف شخص، في دولة متوسطة الدخل، فما الذي تعنيه يا ترى لدولة جاوز سكانها العشرة ملايين نسمة. وتعد نصف ديون الصومال الخارجية تقريباً مستحقة لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي، ويتعين نظرياً تسوية هذه الديون قبل البحث في مشاريع دعم جديدة من قبل هذه المؤسسات. وبالطبع، ليس من المنطقي مطالبة دولة متهالكة بتسوية ديونها، واعتبار ذلك شرطاً لأي دعم مالي أو تنموي جديد يقدم لها. والصحيح والمنطقي هو النظر إلى جوهر المعضلة، ومسبباتها ونتائجها البادية للعيان، والتحرك من منطلق أن دعم الصومال ضرورة لا غنى عنها للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. في الوقت الحالي، لا يوجد مصدر دخل يعتد به لدى الدولة الصومالية. ومصدر الدخل الذي تديره الحكومة هو المطار والميناء. وهناك مليار دولار يمنحه العالم سنوياً للبلاد، ويقع في أيدي المنظمات الدولية مباشرة. وكان تصدير الماشية يُمثل المصدر الرئيسي للعملة الصعبة للصومال، قبل الحرب الأهلية التي عصفت به. وقد بدأ الصومال مؤخراً العودة إلى تصدير المواشي، وافتتح في مقديشو أول محجر صحي، يستوعب 240 ألف رأس. واستغرق بناء هذا المحجر ثلاث سنوات، واكبتها جهود دبلوماسية وتجارية، قامت بها الحكومة لرفع الحظر المفروض على استيراد لحوم ومواشي البلاد. ويمتلك الصومال حوالي 60 مليون رأس من الماشية، وفقاً للتقديرات الرسمية. وبطبيعة الحال، فإن هذه الثروة يُمكن أن تصبح منطلقاً لإعادة بناء اقتصاد الصومال، على أن لا يكون الأمر مقتصراً على تصدير اللحوم الحية، بل تواكب ذلك مساعي لتشييد بنية أولية للصناعات ذات الصلة باللحوم والألبان ومشتقاتها. وعلى الصومال أن يهتدي في السبيل بتجارب دول مثل البرازيل ونيوزيلندا وأستراليا. وعلى المجتمع الدولي أن يبدأ بإطلاق مشاريع استثمارية لهذا الغرض، داخل الصومال أو في الدول المجاورة، على أن تكون موجهة، في الأحوال كافة، لإنعاش الاقتصاد الصومالي واستنهاضه. كذلك، يمتلك الصومال أراضي واسعة صالحة للزراعة، كما يتمتع بموسمي أمطار متميزين، الأول هو "غو"، أو موسم الأمطار الطويل خلال الفترة من آذار مارس إلى حزيران يونيو، الذي يدعم الموسم الزراعي الرئيسي. والثاني هو "دير"، أو موسم الأمطار القصير، الذي تسقط فيه الأمطار في أوقات مختلفة في جميع أنحاء البلاد، ولكن عادة ما تسقط خلال شهري تشرين الأول أكتوبر وتشرين الثاني نوفمبر. وعلى الرغم من ذلك، فإن الإنتاج الزراعي للصومال لا يعكس حقيقة المقومات الطبيعية التي يتمتع بها، فهذا الإنتاج منخفض كثيراً، لأن المزارعين غير قادرين على الحصول على المدخلات الجيدة ومصادر الري. ووفقاً لبيانات البنك الدولي، فقد وصل محصول الحبوب في الصومال بين عامي 2007 و2011 إلى 432 كيلوغراماً لكل هكتار من الأراضي المحصودة، مقارنةً ب 5358 كيلوغراماً في النمسا، و 1674 كيلوغراماً في إثيوبيا. وفي واقع الأمر، لو كانت هناك قدرة إنتاجية جيدة على الصعيد الزراعي، لكان بمقدور البلاد تجاوز تداعيات أي موجة جفاف تتعرض لها، في موسم أو عام معين. ولأن هذه القدرة غير موجودة، بسبب غياب الأمن والاستقرار، وانهيار المقومات الأساسية للدولة، أصبح الصومال عرضة للمجاعات، التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من البشر، معظمهم من النساء والأطفال. وحتى اليوم، يعاني ما لا يقل عن 28% من سكان الصومال، أي حوالي 2.12 مليون نسمة، من انعدام الأمن الغذائي. وهناك نحو 236 ألف شخص يعانون سوء التغذية الحاد، ويعتبرون بحاجة إلى علاج غذائي متخصص. ووفقاً لتقرير "وضع الأطفال في العالم"، الصادر عن صندوق الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسف) في العام 2012، تحتل الصومال المرتبة الأولى في معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة. كما لا يتمتع الأطفال فيها سوى برعاية صحية ضعيفة التغطية والجودة، بالإضافة إلى انخفاض في معدلات التلقيح، وارتفاع مستويات سوء التغذية، وتفشي الأمراض بطريقة متكررة. وقد أعلنت الحكومة الصومالية في 24 نيسان أبريل 2013 عن نيتها إخضاع جميع الأطفال، دون السنة من العمر، للقاح الخماسي التكافؤ، أو خمسة في واحد، وذلك بتمويل من التحالف العالمي من أجل اللقاحات، وبالتعاون مع منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسف) ومنظمة الصحة العالمية. وسيتم الحصول على اللقاح الخماسي مجاناً من الاتحاد الدولي للقاحات، الذي أكد أنه زود الصومال ب1.3 مليون من هذا اللقاح في العام الجاري. تقول مريم قاسم، وزيرة التنمية الاجتماعية الصومالية: "يموت الأطفال في الصومال من الأمراض التي تمكنت باقي دول العالم من وقاية أطفالها منها". وفي حقيقة الأمر، فإن الصومال لن ينهض من كبوته الراهنة إلا في حالة واحدة، هي تحوّل اتجاهات الدعم الدولي من المعونة والغوث إلى مشاريع التنمية الإنتاجية. والأزمة في الصومال طال أمدها، على نحو لم يتوقعه كثيرون. وهي قد عصفت بالدولة والمجتمع وذهب ضحيتها مئات آلاف القتلى، وملايين المشردين، وجعلت من البلاد قوة طاردة لفرص العيش والحياة. وفي غضون ثلاث سنوات فقط، تسبب الصراع في الصومال بمقتل 21 ألف شخص، وذلك في الفترة بين مطلع عام 2007 ونهاية العام 2010، كما أدى إلى تشريد مليون وخمسمائة ألف مواطن من منازلهم. ولم يشهد عاما 2011 – 2012 تحسناً مهماً في ظروف الأمن، إلا أن نهاية العام الأخير حملت تطوراً ايجابياً على هذا الصعيد. اليوم، ثمة بصيص أمل بدأ يلوح في نهاية النفق، ويتمثل في النجاح النسبي لمشروع المصالحة الوطنية، وانبثاق سلطة جديدة على أنقاض الحكومات الانتقالية المتعاقبة، التي كان جوهر وجودها يتلخص في إدارة أزمة، وليس بناء وطن. وعلى خلفية التطوّر الجديد، سارعت العديد من الدول، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة الأميركية، للترحيب بالعملية السياسية، والتأكيد على دعمها. وقد اعترفت الولاياتالمتحدة بالحكومة الصومالية، في 17 كانون الثاني يناير 2013، وذلك للمرة الأولى منذ العام 1991. ورحبت وزيرة الخارجية (السابقة) هيلاري كلينتون بالحكومة الجديدة، ورأت فيها "خطوة أساسية نحو انتهاء رحلة" العودة إلى الحياة الطبيعية في البلاد. وجاء ذلك خلال لقاء كلينتون، في واشنطن، بالرئيس الصومالي حسن شيخ محمود. وسيتمكن الصومال بهذا الاعتراف من إقامة علاقات جديدة مع الوكالة الأميركية للتنمية. وفي سياق الانفتاح الدولي الجديد على الصومال، أعلنت وزيرة الخارجية الصومالية، فوزية يوسف حاجي آدم، في شباط فبراير 2013، أن حكومتها تسلمت أوراق اعتماد خمسة سفراء من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، يمثلون ألمانيا وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا وفنلندا. وكان عدد من الدول قد عينت سفراء أو ممثلين لها في الصومال، ومن بينها الولاياتالمتحدة واليابان، إلا أن غالبية الدول لم تفتح بعد سفارات لها، بل يؤدي السفراء مهامهم من مقار سفارات بلدانهم في الدول المجاورة. ومن الدول التي افتتحت بعثات دبلوماسية في مقديشو، بريطانيا وتركيا وإيران وليبيا وإثيوبيا والسودان واليمن. وضمن مؤشرات الاهتمام الدولي، أصدر مجلس الأمن الدولي، في الثالث من أيار مايو 2013، قراراً بالإجماع قضى بإنشاء بعثة الأممالمتحدة للمساعدة في الصومال "أنسوم". ومن أبرز مهام هذه البعثة، التي ستمارس أعمالها بحلول الثالث من حزيران يونيو من العام الجاري، القيام بمساع حميدة للسلام والمصالحة الوطنية، ودعم بعثة الاتحاد الأفريقي، وتقديم المشورة بشأن السياسات العامة. وخلاصة، فإن المطلوب اليوم هو مزيد من الدعم الدولي والإقليمي للصومال، من أجل أن يبدأ مسيرة البناء الاقتصادي والاجتماعي، ويصبح عضواً فاعلاً في محيطه، وعامل تعزيز للأمن والاستقرار على مستوى المنطقة والعالم. وهذه مهمة سامية يجب أن تنهض بها الأسرة الدولية، وتؤكد باستمرار على أولويتها.