كنا قد أفسحنا حيزا للتلفاز ليشاركنا مجلسنا بصورة يومية حتى بات فردا من العائلة، فإذا صمت استوحشنا وإذا غادر افتقدنا ثرثرته وحضوره، لكن يبدو الآن أن (الشيخ غوغل) بات يزاحمه المكان، وهو يهرول نحو صدارة المجلس، لاسيما أن الهواتف الذكية اختصرت المسافة إليه، فتجدنا حوله كالمريدين المتلهفين لما يقوله صاحب الحضرة، ويندر أن يمر يوم دون أن نطرق بوابته، وننهل من مائه، فهو الكشاف الصغير الذي نحمله وسط اشتجار المعلومات الهائل حولنا، حتى ونحن نتابع نشرات الأخبار قد نستفسر منه مثلا عن موقع جبل الزاوية في سوريا بالتحديد، أو عن ثمن الفيزا إلى بريطانيا، أو عن آحر إصدار للتقويم المدرسي الجديد. ولكن هذه الحالة العجيبة من الإعصار المعلوماتي هل هي ايجابية؟ أم أنها سمة للعصر الجديد الذي أسموه بعصر (الاينفومينيا)، أي تحول المعلومة إلى مرض وبائي؟ صديقة بريطانية أرسلت لي مقالا حول الموضوع، أجتزئ مقطعا منه ترجمته بتصرف لأنني أعتقد أن بداخله ما يستحق المطالعة. (بلاشك التقنية الحديثة جلبت تغيرات كبيرة لنمط حياتنا، ولعملنا، وعلاقاتنا الشخصية. لكن هناك جانب مظلم للإعلام الجديد أيضا، فبينما جعلنا الإنترنت نتواصل بصورة يسيرة وفورية وبلا حواجز، لكنه أيضا صنع جماهير مهووسة بالمعلومة مستلبة لها. اينفومينيا هي تعبير جديد اخترع من قبل المهتمين لوصف الأناس الذين يتابعون المواقع الاجتماعية والرسائل النصية التي تصلهم والإيميلات، بشكل إدماني ينعكس سلبيا على نسبة الذكاء. ففي دراسة قام بها الطبيب النفسي (قيلين ويلسون) من جامعة لندن، توصل إلى أن نسبة معدل الذكاء (IQ) تنخفض 10 درجات مع استمرار النقر على أزرار الكمبيوتر، والهاتف الجوال، بشكل يفوق فيما لو تعاطى الإنسان مخدر الحشيش الذي يخفض نسبة الذكاء فقط 4 درجات. ويرجع هذا الانخفاض في الذكاء إلى أن هؤلاء الجماعة دائما مشتتون بالمعلومات التي تنصب عليهم عبر الإيميل وعبر الهاتف الذكي ومتاهات عالمهم الافتراضي، حيث يتبعثر انتباههم، وتنخفض طاقاتهم الإبداعية، ويصبح الدماغ في حالة تيقظ وتحفز مستمرين بهدف استقبال المعلومة إضافة إلى متطلباته اليومية من العمل، حتى يبلغ مرحلة الإجهاد. وقد رصدت الدراسة حالات متطرفة لبعض الموظفين يستيقظ فيها على شاشة الهاتف، ويظل في حالة متصلة من تبادل الرسائل حتى أثناء فترة الاستراحة، مما يؤدي إلى نتائج مدمرة على المدى البعيد، لأنه أسير حالة تشبه الإدمان رصدت داخل أجزاء ومواضع من الدماغ. وقد أظهرت الدراسة أيضا أن أولئك الذين يعيشون في عالمهم الافتراضي داخل أجهزته يصبحون أكثر عصبية وشراسة مع زملائهم ولم نعرف إلى الآن كيف ستنعكس هذه على طريقة عمل الأدمغة على المدى الطويل.. انتهى.. بالنسبة لي شخصيا أعتقد أن هذه الدراسة مغرقة في تشاؤمها، وأن الإنسان دوما لديه دماغ ذكي قادر على أن يتغلب على التحديات التي يتعرض لها، وباستطاعته أن يتجاوزها، بل ان تلك التحديات والصعوبات ضرورية كونها كانت محفزا للدماغ عبر التاريخ البشري ليتطور، وأعتقد أن نفس المخاوف قد استيقظت عندما اخترعت مكينة الخياطة بدلا من الإبرة، وآلة الطباعة بدلا من النسخ باليد. وبالنسبة لأجيال التقنية وال Click أعتقد أن هناك مساحات بكر جديدة قد أشرعت في أدمغتهم، وسيستطيعون تطوير أدواتهم بهدف التعايش مع الانفجار المعلوماتي حولنا. ولربما الانخفاض في نسبة الذكاء الذي أشارت له الدراسة السابقة يرجع إلى كون الأدمغة البشرية في مرحلتها الآنية، لم تعتد بعد على فرز وتصنيف هذا التدفق المعلوماتي الهائل، وتحتاج إلى عدد من الأجيال البشرية لتطوير قدرات بإمكانها أن تقاوم وباء (الإينفومينيا).