تركيب لوحات شارع الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ في العاصمة الرياض    استشهاد 10 فلسطينيين إثر قصف إسرائيلي استهدف تكية طعام جنوب غزة    هولندا تدعو الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على الحوثيين    برشلونة يعلن تأجيل موعد عودته إلى ملعب «كامب نو»    «الرياض تقرأ»    رفقًا بالمعلمين والمعلمات أيها المتنمرون    التعليم معركة الوعي وبناء المستقبل    تراجع سوق الأسهم السعودية في ختام تداولات الأسبوع بضغط من قطاع البنوك    جامعة الملك سعود تعقد اللقاء التعريفي لبرنامج المنح الدراسية والابتعاث    وزير الصحة يبحث مع وزير الثقافة السوري تعزيز التكامل بين القطاعين الصحي والثقافي    القبض على مواطن بجازان لتهريبه ونقله مواد مخدرة وإيواء مخالفين لنظام أمن الحدود    سباليتي يقول نعم ل "الاتحاد"    "الدمام" تحقق المرتبة الثانية على مدن المملكة والثالثة عربيا في جودة الحياة    دوري يلو 4.. العلا ل "تعزيز الصدارة".. وقمة بين الدرعية والجندل    تطبيق المرحلة الثانية من الموجهات التصميمية للعمارة السعودية ب 7 مدن    الأحساء تحتفي باليوم العالمي للقهوة في جادة 30    أمير الشرقية يدشن حملة "الشرقية وردية 17" للكشف المبكر عن سرطان الثدي    وزارة الداخلية تشارك في معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025 بمَلْهَم    أمير منطقة جازان يطلق جائزة "الأمير محمد بن عبدالعزيز لمزرعة البن النموذجية" بنسختها المطورة    "هيئة العناية بالحرمين": 115 دقيقة مدة زمن العمرة خلال شهر ربيع الأول    التكيُّف مع الواقع ليس ضعفًا بل وعي وذكاء وقوة    "التخصصي" في المدينة ينجح في إجراء زراعة رائدة للخلايا الجذعية    المخبر الوطني بالقيروان.. ذاكرة المخطوط العربي    شارك في اجتماع قادة مؤتمر ميونخ.. وزير الخارجية ونظيره السوري يبحثان دعم الأمن والاقتصاد    بعثت برقية تهنئة لرئيس الصين بمناسبة «اليوم الوطني».. القيادة تهنئ رؤساء نيجيريا وقبرص وبالاو ب«ذكرى الاستقلال»    5.9 مليار ريال تمويلات عقارية    إرث متوارث.. من قائد (موحد) إلى قائد (ملهم)    شذرات.. لعيون الوطن في يوم عرسه    «التأمينات» اكتمال صرف معاشات أكتوبر للمتقاعدين    تابع سير العمل ب«الجزائية».. الصمعاني: الالتزام بمعايير جودة الأحكام يرسخ العدالة    حققت مع 387 موظفاً في 8 وزارات.. «نزاهة» توقف 134 متهماً بقضايا فساد    الصورة الذهنية الوطنية    «المرور»: استخدام «الفلشر» يحمي من المخاطر    زلزال الفلبين: بحث يائس ومخاطر متصاعدة    اغتيال مرشح برلماني يهز طرطوس.. أردوغان يحذر من المساس بسلامة الأراضي السورية    قمة أوروبية لمواجهة تهديدات موسكو.. مفاوضات روسية – أمريكية مرتقبة    البنتاغون يواصل تقليص مهمته العسكرية بالعراق    عزلة إسرائيل تتعمق مع تصاعد الحرب وترقب خطة ترمب للسلام    أمراء ومسؤولون يقدمون التعازي والمواساة في وفاة الأميرة عبطا بنت عبدالعزيز    «ريف» تعزز إنتاج السعودية من البن    رحب باستضافة السعودية مؤتمر«موندياكولت».. بدر بن فرحان: شراكة المملكة و«اليونسكو» تسهم في التنمية الثقافية    تسعى إلى إشراكهم في التنمية..«الموارد» : ترسيخ التحول الرقمي لخدمة كبار السن    ائتلاف القلوب    شذرات لعيون الوطن في يوم عرسه    الشباب يبدأ مشواره الخليجي بالتعادل مع النهضة    الهلال يطلب عدم استدعاء نونيز لقائمة منتخب أوروغواي    باحثون يطورون علاجاً يدعم فعالية «المضادات»    شيءٌ من الوعي خيرٌ من قنطار علاج    ملتقى لإمام وقاضي المدينة المنورة بن صالح    "جدة بيوتي ويك" يجمع رواد التجميل والابتكار في موسم جدة    استئناف ممارسة رياضة الطيران الشراعي في السعودية    صداقة وتنمية    تقليص ساعات العزاء والضيافة عن نساء صامطة    معتمرة تعود من بلدها لاستلام طفلها الخديج    نائب أمير تبوك يستقبل مدير عام الأحوال المدنية بالمنطقة    أمير جازان يستقبل وكيل وزارة الداخلية لشؤون الأفواج الأمنية    تقرير "911" على طاولة أمير الرياض    بطل من وطن الأبطال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الساعة الخامسة والعشرون
نشر في الرياض يوم 18 - 10 - 2012

في أول يوم من خريف 2012 بدأت بقراءة أخرى لرواية "الساعة الخامسة والعشرون" للكاتب الروماني "كونستانتان جيورجيو". لم تكن القراءة الأولى ولا أحسبها الأخيرة. قرأت الرواية في نحو منتصف سبعينيات القرن العشرين، ثم أعدت قراءتها في الخريف الذي اندلعت فيه الحرب بين العراق وإيران عام 1980، وعاودت قراءتها في أصعب سني تلك الحرب 1987، ثم وجدت في نفسي رغبة عارمة في قراءتها إبان احتلال العراق للكويت في صيف1990. وحينما عدت إلى العراق في صيف 2003 كانت "الساعة الخامسة والعشرون" أول كتاب قرأته. ومنذ مطلع هذا الصيف تفاقمت بي حاجة لقراءة هذه الرواية، فبحثت عنها في مكتبتي لكنني لم أعثر لها على أثر، ولما يئست، توجهت غروب ليلة الأول من سبتمبر إلى منزل صديق لي، فطلبتها منه، وباشرت قراءتها ليلا، فانتهيت منها أول مساء يوم7 منه.
بي شغف لقراءات تلقي عليّ الأسئلة، وتحثّني على التفكير بالعالم وبنفسي. ومع أنني صرت شبه ساخط من كثرة التأويلات التي تلازمني في أثناء القراءة بسبب الميول التحليلية جراء عملي النقدي والأكاديمي، فإن أعمالا سردية تعنى بالمصائر المأساوية للإنسان تجتذبني إليها، وتدفع بي للتفكير بها أكثر من الاستمتاع بأحداثها، فلم أعد قادرا على الخوض في تفاصيل الأعمال السردية دونما أسئلة تثير أسئلة أخرى، فليس القراءة غوصا ممتعا في عوالم افتراضية شفافة إنما هي نحت في صخر بحثا عن القضية القابعة في ثنايا الأحداث، وما إن انتهي من كتاب إلا واجدني مستثارا بأفكاري أكثر من أفكار المؤلف، وكأنني أنا من يكتب. ويا للعجب من حال مزدوجة أقرأ فيها أفكاري وكتب الآخرين معا. ولعل "الساعة الخامسة والعشرون" أحد أكثر الاعمال السردية الباعثة على أسئلة حول المصير المأساوي للإنسان، فالبراءة فيها تكافأ بعنف يشمل الجسد والنفس، وحسن النية يقابل بسوء كامل، والعالم الافتراضي للرواية متاهة يتعذّر أن ينجو منها أحد. وعلى النقيض من معظم الأعمال السردية حيث يختل توزان الأحداث ثم يعاد في النهاية فإن نسق الاختلال في الرواية يتعمق بمرور الزمن ولا يعود إلى سابق عهده أبدا.
تتضمن الرواية تركيبا سرديا متداخلا، يقوم فيه الكاتب "تريان كوروغا" بتأليف رواية اسمها "الساعة الخامسة والعشرون" عن مخاطر الحياة الأوروبية التي اتجهت الى قهر الإنسان باسم الحداثة، وقد انتقى شخصيات روايته من معارفة وأقاربه ثم راح يتعقّب مصيرها في ظل الحرب العالمية الثانية حيث التمييز قائم بين الناس على أساس الدين والعرق والأيدلوجيا، وما الساعة الخامسة والعشرون إلا تلك الساعة التي يتعذّر فيها على الانسان النجاة بحياته من هلاك مؤكد، هي "اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للانقاذ عديمة الجدوى، بل إن قيام مسيح لن يجدي فتيلا. إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي بعد الساعة الأخيرة. ساعة المجتمع الغربي".
تتشابك شخصيات الرواية وهي تنتقل من حال إلى حال نقيضة؛ إذ تصبح الضحية جلادا. يعدم المحقق "دميان" من طرف المحاكم الشيوعية التي يترأسها اليهودي "ماركو غولدنبرغ" ويلقى وسط كومة من القاذورات، وينتحر "أيوردان" النازي بعد أن تجتاح القوات الروسية ألمانيا، ويتعرض الكاتب "تريان كوروغا" الى ترحيلات كثيرة بين المعتقلات، ويقتل في أحد سجون الأسرى، وينال أبوه الكاهن" كوروغا" عقابا لأنه اتهم من الشيوعيين بأنه صلّى في كنيسته لجماعة من الثوار الذين اعتبروا من الفاشيين، ثم يتهم من طرف الأمريكيين بأنه نازي، ويموت في أحد السجون التي يشرفون عليها. أما الشخصية التي تتجلى من خلالها الموضوعة الأساسية للرواية، وهي "أيوهان موريتز" فتشهد تجارب إذلال في رومانيا وهنغاريا والمانيا، وتتنقل بين عشرات المعتقلات.
اعتاد السرد أن يقدم مقترحات متماسكة لحبكاته ومصير الشخصيات الأساسية فيه، لكن رواية" الساعة الخامسة والعشرون" تفاجئ القارئ بغير ما رسمه السرد له، فالمصائر لا يقررها الأفراد إنما الأحداث العامة التي صممت لتخرب هوية كل شخصية بإخضاعها لاختبارات أخلاقية ووجدانية، ويطرح الكاتب رؤية مأساوية للعالم الغربي، وهو يرى أن وعود الخير ستنبثق في الشرق. وفيما تفتتح الرواية بأرياف ومراع تنتهي بمعتقلات وسجون، وقد استسلمت شخصياتها لمصائر تقرّرها قوى لا ظهور لها في العالم المتخيّل للرواية، حيث تعاقب ببرود، ويحكم عليها بالسجن أو الموت دونما تردد، فهو المجتمع الشمولي الذي لا يعنى بهوية الفرد إنما ينظر إليه باعتباره كائنا مبهما في ولائه أو عدائه.
حينما انتهيت من الرواية سيطر عليّ ذهول ما لبث أن أصبح حزنا، فقد عشت تجربة القراءة وكأنها وقائع مررت بها، وأرجح أن الظرف التاريخي للعراق خلال حقبتي الاستبداد والاحتلال قد أسهم في التأثير في قراءاتي الحالية والسابقة لها، فقد كنت محاطا بشخصيات مرت بتجارب مماثلة أو شبه مماثلة لما عرضته الرواية، ففي النظم الشمولية يلقى الأفراد في متاهة غامضة، وتجربة الاحتلال وفّرت ظروفا مثالية لأن يمارس الضحايا أدوار الجلادين بوقاحة نادرة المثيل، كما حدث في رواية "الساعة الخامسة والعشرون". ومعروف مبلغ الأذى الذي تمارسه ضحية إن تأتّى لها أن تقوم بدور الجلاد، فالتعطش إلى النقمة يجتث في طريقه أية رحمة، وأرجح أن ذلك قد استبطن علاقتي بهذه الرواية طوال أكثر من ثلاثة عقود، فقد كنت شاهدا على تبادل الأدوار بين الجلادين والضحايا.
يشاطرني بعض القرّاء الرأي القائل بأن كثيرا من الروايات يتلاشى حضورها من الذاكرة بمرور الأيام، وتصبح استعادتها مستحيلة أو شبه مستحيلة، وقلة قليلة من الروايات تدمغ الذاكرة بدمغتها الخاصة، ومنها، فيما أحسب، رواية "الساعة الخامسة والعشرون"، فهي كتاب يراهن على فرضيته منذ البداية، فأولا هو يمتثل لأساليب الكتابة التقليدية بمشاهدها السردية الطويلة، وحواراتها المستفيضة، ثم تنامي الأحداث بالتتابع، وبذلك يتجنب أية حذلقة من تلك التي يسعى إليها كثير من المؤلفين جهلا بمعايير الكتابة الأصيلة، فما إن يشرع القارئ في قراءته حتى ينزلق إلى عالمه الافتراضي، ويتعذر عليه مغادرته لأن علاقاته بالشخصيات تأسست على قاعدة من المشاركة في كل شيء. وثانيا يقترح الكتاب قضية أخلاقية مركّبة لها صلة بالدين، والمصير، والهوية، والحرية، والعبودية، فيربطها بالأيدلوجيات المتطرفة التي تعجز عن الاعتراف بالذات البشرية فتلجأ إلى إعادة إنتاج الإنسان باعتباره عدوا يهدد سلامة الجماعة، لتبيح الفتك به بأية وسيلة تتوفر عليها. وثالثا، تخترق الكتاب بكامله، وتخيم عليه، نبرة مأساوية تستبطن الشخصيات الأساسية فيه، فلا تنفك تتقبل الأذى سعيا للبراءة، فتنتهي إلى الاعتراف بأنها غير قادرة على مواجهة عالم جعل من الشرّ ركنا أساسيا من أركانه، فانحسر الخير، وتوارى، ولم يعد إلا ذكرى حبيسة في نفوس انهكها التعذيب والترحيل. وأخيرا، فقد وجدت في الكتاب صدى مضمرا للملاحم الكبرى، والتراجيديات الإغريقية، والمآسي الشكسبيرية، وكل ذلك يصلح أن يشكّل خلفية استعادية لقراءته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.