ناصر أحد القادمين من قريته في أواسط نجد، تجاوز الستين من عمره، يملك بيتاً ولديه أسرة ناجحة، ومن الطبقة المتوسطة في المجتمع، تنقل قبل أربعين عاماً بين الوزارات بملفه الأخضر يبحث عن وظيفة تكفيه مذلة السؤال، لا يملك من المؤهلات سوى شهادة الثاني متوسط والعزيمة والصبر وملفه الأخضر، وذات صباح قرأ في الجريدة اليومية إعلانا من القوات الجوية يطلبون فيه متقدمين لصيانة وتشغيل طائرات ستصل بعد ثلاث سنوات، حزم أمتعته وودع والدته التي احتضنته ودعت له بالتوفيق، وتوجه إلى المعهد الفني للقوات الجوية بالظهران، وهناك التقى بزملاء له من جنوب المملكة وشمالها، ومن غربها وشرقها، بقي في المعهد ثلاث سنوات أتقن خلالها اللغة الإنجليزية وبتخصص فني يناسب قدراته . تم تعيينه في الظهران برتبة وكيل رقيب، وبدأ التدريب العملي بواسطة مدربي الشركة الصانعة، وتدرج من المستوى الثالث الفني إلى المستوى السابع، وبعد سنوات حلّ محل مدربه الذي عاد إلى بلاده أما هو فتم نقله وأسرته الصغيرة إلى الطائف حيث وجد بانتظاره سكناً يليق به وبأسرته، وقريباً من البيت مدرسة لأبنائه ومستوصفا تعالج فيه أسرته، ويقضي بعض مساءاته في الصالة الرياضية التي بنيت عن طريق المشروع. بعض زملائه الأوفر حظاً تم ابتعاثهم إلى الولاياتالمتحدة ليصبحوا مدربين، بعضهم ترك القوات الجوية ليبدأ عمله الخاص، تقاعد ناصر بعد قصة نجاح صنعها المخلصون من قادة البلد، وحين أذكّره بتلك الأيام الجميلة يشكر الله ويرفع يديه بالدعاء للقائمين على المشروع الذين وضعوا أول شروط العقد تدريب المواطنين وإحلالهم محل مدربيهم من أفراد الشركة التي فازت بالمشروع، استوعب ناصر وزملاؤه تقنية الطائرات العالية وتغلبوا على التحديات، كان ضمن العقد بند للتدريب والابتعاث وتوطين الوظائف وتأمين العلاج والسكن والصالات الرياضية. أتذكر ذلك وأنا أقرأ كثرة الإعلانات عن مشاريع بعشرات البلايين من الريالات، وآخرها مشاريع النقل في كل من الرياض ومكة تتجاوز قيمة بعضها أربعين ألف مليون ريال، وقبل ذلك مشاريع كبيرة في الإسكان تقدر بمئات البلايين من الريالات، ناهيك عن بناء الجامعات والمستشفيات والمدن الصناعية. المملكة تمر بمرحلة بناء ووفرة مالية غير مسبوقة، يمكن أن تترجم إلى مشاريع لها جدوى اقتصادية تتضاعف قيمتها ويعم نفعها كل بيت عن طريق بنائها وتشغيلها وصيانتها بسواعد أبناء البلد من أمثال ناصر الذين يقبعون الآن في بيوتهم وبعضهم تخرج من كليات التقنية، من يصدق أن المملكة أكثر دولة في العالم تعتمد على التكييف في فصل الصيف ومع هذا يتخرج الطالب فنّي تكييف ولا يجد وظيفة. يقول فيكتور هوغو"لا يوجد ما هو أقوى من فكرة قد آن أوانها" ويقول المهاتما غاندي"إن الفرق بين ما نفعله وما نحن قادرون على فعله يمكن أن يحل معظم مشاكل العالم". ما تعيشه المملكة من وفرة في المشاريع يجب أن ينعكس على عدد الوظائف التي يؤمنها كل مشروع لشباب وشابات هذا البلد، وهذا يمكن أن يتحقق حين نقوم بالخطوات الآتية: 1- يجب أن يكون في كل مشروع من مشاريع البناء والبنية التحتية والنقل بند للتدريب والتأهيل على رأس العمل، هذا البند سيكون له تكلفة إضافية على المشروع، لكن فوائده تتعدى التكلفة المادية، لأنه سيؤمن وظائف مجزية وتدريبا للعنصر البشري المحلي الذي سيكسب الخبرة والمعرفة اللازمة لنجاح المشروع، وفي تجربة القوات الجوية انتهى المشروع وانتهى العمر الافتراضي للطائرات وبقي ناصر وزملاؤه يبنون ويعملون يعطون الخبرة لمن بعدهم، وكما يقال ذهبت الآلة وبقي الإنسان. 2 - أفضل ضمان لنجاح المشاريع وجودتها هو أن تنفذ مع الشركات الرائدة على مستوى العالم بالتعاون مع الشركات المحلية ودون وسيط يأخذ ولا يعطي، أو مقاول من الباطن لا ينفذه حسب المواصفات، بل يصبح حجر عثرة أمام جودة التنفيذ، ولو عدنا إلى المشاريع الكبيرة الناجحة في كل من أرامكو والجبيل وينبع وغيرها لوجدنا أنها نفذت مع شركات رائدة على مستوى العالم كلّ في مجاله. 3 - لدى الشاب والشابة السعودية قدرة كبيرة على العطاء والبذل وتحمل مشاق العمل الصعب والساعات الطويلة بشرط أن يمنحا الراتب المجزي الذي يتوافق مع ما يبذلانه من جهد وبيئة مناسبة، والدليل على ذلك ما نراه في الشركات الرائدة وفي البنوك، وفي كل دول العالم يوجد حد أدنى للأجور يعطي العامل ما يستحقه مقابل جهده، وهذا يقلل من العمالة الرخيصة التي أصبحت عبئاً على اقتصاد البلد، والدليل على سوء استخدام العمالة محطات الوقود التي تستخدم الكثير من العمالة في كل محطة مقارنة بمحطات الوقود في العالم المتقدم، وقس على ذلك الكثير من الأعمال. ليست قصة ناصر سوى مثال بسيط على أنه إذا وجدت الإرادة والتصميم ذُللت الصعاب، وهناك ألوف من أمثال ناصر تم انتشالهم من العطالة والفقر إلى الحياة الكريمة، إلى الطبقة المتوسطة التي تحسن التربية وتسهم في استقرار البلد.. علينا أن نركز على الأعمال الفنية والمرتبات المجزية وبيئة العمل الملائمة وأن يكون القضاء على البطالة مهمة كل مسؤول، فالبطالة هي أكبر معضلة يواجهها العالم ومنها المملكة، وتزداد سوءاً بمرور الأيام ونقص الأعمال وزيادة السكان. وكل مسؤول يريد أن ترتفع الأكف لتدعو له بعد كل صلاة عليه أن يسعد أسرة بتمكين عائلها من العمل، ولنتذكر أن الدعاء يعرف طريقه جيداً نحو السماء..