حقيقة الأمر هو أن دور البلدية حسب ما تعلمناه وشاهدناه وعايشناه طوال حياتنا هو "ضبط العمران"، هذا إذا صح هذا الدور طبعا، لأننا كذلك كنا ومازلنا نردد "البلدية أذية"، وهذه الأذية تعني بشكل او بآخر ان هذه المؤسسة لا تصب في خدمة المدينة ومن يسكنها. مع أن إدارة المدن المعاصرة تقول غير هذا، فهي تفرض نوعا من التعامل مع السكان يجعل منها ملاذا اجتماعيا يقدم خدمات متعددة عادة ما يحتاجها سكان المدينة، لأن الهدف من وجود المدن هو تعايش الناس وتفاعلهم وتحقيق امنهم الاجتماعي والاقتصادي والبلدية بمفهومها العام هي "إدارة المدينة"، أي إدارة الحياة المدينية للناس. ربما يستغرب البعض هذا الربط بين البلدية والرعاية الاجتماعية فقد تعودنا أن تكون مسؤولية الرعاية الاجتماعية تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية وليس للبلدية اي دور فيها، إلا أن هذه التصورات المختزلة لدور بلديات المدن قد تغيرت كليا، وربما نكون الدولة الوحيدة التي مازالت البلدية تشكل إدارة معزولة عن الادارات الخدماتية الأخرى التي عادة ما تحتاجها المدن لأن العمل في الوقت الراهن يتطلب "إدارة ذكية" وشاملة للعمران (بمفهومه المادي والاجتماعي) بدلا من الاهتمام بجزئيات لن تساعد في يوم على بناء مدينة "فاضلة" أو شبه فاضلة يعيش فيها الناس وهم يعون أنهم في أيد أمينة. مسؤولو البلدية ينظرون لأنفسهم على أنهم «شرطي» المدينة وهم يمارسون هذا الدور بتعسف ومبالغة في كثير من الاحيان، رغم أن دورهم الفعلي هو خدمة سكان المدينة لا مضايقتهم ومحاربتهم في ارزاقهم أو تعقيد أمر حياتهم يجب أن نتوقف كثيرا عند هذا العداء بين الناس وبين البلديات، فمسؤولو البلدية ينظرون لأنفسهم على أنهم "شرطي" المدينة وهم يمارسون هذا الدور بتعسف ومبالغة في كثير من الاحيان، رغم أن دورهم الفعلي هو خدمة سكان المدينة لا مضايقتهم ومحاربتهم في ارزاقهم أو تعقيد أمر حياتهم. ولو سألت اي مسؤول في البلدية عن "النظام البلدي" الذي يتبعه سوف تجده يفتش في الاوراق المتناثرة على مكتبه ليقول لك ان النظام غير مكتوب لكنه متفق عليه، ولا يذكر من الذي اتفق عليه ومتى تم هذا الاتفاق، والحقيقة أن فكرة "إدارة العمران" غير ناضجة في عقله، فالمسألة هنا هي مجرد عمل وظيفي فقط، أما كيف تعمل المدينة وهل كفاءة هذا العمل بنفس القدر المطلوب، فهذا أمر آخر. في اعتقادي أنه عندما تتشكل علاقة عداء بين الناس وبين البلدية فهذا يعني أن هناك خللا كبيرا في هذه المؤسسة ويجب أن نصلحه بأي شكل من الأشكال، وربما يكون من المجدي في هذه الحالة أن نبحث متى تشكل هذا العداء وكيف تحول إلى ظاهرة تخرب المدينة وتحولها إلى مكان محتقن دائما. أما السؤال الآخر فهو: لماذا نجد هذا "التعاقد الاجتماعي" بين كثير من البلديات "الديموقراطية" وبين سكان المدينة، هذا لا يعني أن هناك مدينة تخلو من المشاكل لأن الهدف من وجود البلدية هو حل المشاكل لكن عندما تتشكل علاقة ود بين الناس والبلدية فهذا يعني أن إدارة المدينة تسير في الطريق الصحيح. فقبل ايام، على سبيل المثال، التقينا برئيس بلدية أنقرة (مليح كوكحك) وخرجنا بعد اللقاء معه لوسط المدينة القديم فاستقبلنا الناس هناك بترحيب شديد، لقد اكتشفت أن عمدة المدينة له جماهيرية كبيرة فقد تجمع الناس حولنا وصاروا يلتقطون الصور حتى الاطفال والنساء، والحقيقة أن المشهد مدهش لأنه يؤكد أن هناك علاقة عميقة بين من يدير المدينة ومن يسكنها. لقد تذكرت قوله اثناء الاجتماع أن بلدية أنقرة تقدم الرعاية الاجتماعية للسكان فهي ملتزمة بإطعام وكسوة أكثر من 150 الف أسرة وأن البلدية تعمل بشكل دائم من أجل مراعاة الظروف النفسية والاجتماعية لفئات المجتمع، لأن المدينة تحتاج إلى الاستقرار الاجتماعي والتوازن الاقتصادي، وكما أنها وسط استهلاكي يفترض أنها تكون وسطا إنتاجيا وبالتالي فإن دور البلدية هو تحقيق هذا التوازن. بصراحة شديدة صرت أشعر بالملل من قولي إنه يجب علينا إعادة النظر في اسلوب إدارة المدينة، فنحن نعلم أن "المجالس البلدية" هي التي يجب أن تكون العقل المدبر للمدينة، وهذه المجالس لا تتشكل اعتباطا، أو حسب الانتماء القبلي أو المناطقي أو أنها كعكة يجب تقسيمها على بعض المتنفذين، بل ان هذه المجالس غالبا ما تتشكل من "المتحمسين" الذين يملكون مهارة في التخصصات المختلفة التي تحتاج لها المدينة ولديهم الوقت الكافي لخدمة سكان المدينة ويمتلكون الرؤية الواضحة والميزانيات المستقلة والصلاحيات التي تخولهم لإدارة المدينة وخدمة سكانها، كما أنها مجموعة تقوم على إدارة المدينة بتوازن وتهتم بعمارة المدينة وبصحتها وبتعليم ابنائها وبكل الخدمات فيها، ويدير هذه المجموعة "عمدة المدينة" أو رئيس بلديتها الذي هو فعلا مسؤول عن تسيير المدينة وتنميتها. نحن بحاجة إلى هذه التركيبة المتجانسة المفكرة حتى نستطيع إنقاذ مدننا ومجتمعنا من هذا التدهور الذي لا يخفى على احد. الأمر هنا لا يحتاج إلى تنظير وطرح افكار بل يحتاج إلى قرارات أولا وعمل يتبع هذه القرارات، فوقت الإدارة العمرانية المركزية قد ولّى ولن يعود، وإذا ما أصرينا على هذا الأسلوب سوف ننفق ثرواتنا فيما لا طائل منه، وسوف تظل مدننا تعاني وسوف نظل نعاني معها. نحتاج إلى من يفكر قبل أن يقرر وأن تكون لديه رؤية واضحة قبل أن يفكر. نحتاج إلى التروي مع بعد عن البيروقراطية، لأن الأمر الغريب هو أننا ننام دهرا ونصحى فجأة ونريد تنفيذ مشاريع تكلفنا مبالغ طائلة في أيام قليلة، فلماذا لم يفكر فيها من قبل؟ ولماذا لا نصبر عليها قليلا؟ المشكلة من وجهة نظري هي أن العمل البلدي الحالي يدار بشكل فردي وبالتالي فإن القرارات فردية، وحسب مزاج رئيس البلدية، مع غياب كبير للمحاسبة رغم أن أعمال البلدية تتقاطع مع مصالح الناس بشكل يومي وتخصص لها ميزانيات ضخمة جدا. العلة تكمن في الادارة، فهي بيت الداء، وهذه العلة ليست في إدارة المدن؛ بل ان النظام الاداري والمالي الذي يحتاج إلى إعادة نظر، وهذا هو الوقت المناسب لهذه المراجعة قبل أن يفوت الفوت.