لمدة 5 سنوات: إيقاف الزيادة السنوية في عقود إيجار العقارات السكنية والتجارية داخل النطاق العمراني في الرياض    الهلال يتسلم قرار لجنة الاستقطابات بشأن الثنائي سافيتش ونيفيز    لوران بلان: بنزيما جاهز للنصر    إحباط تهريب (42.6) كجم "حشيش" في جازان    نجل الزميل الإعلامي يحيى آل مشافي في ذمة الله    ديربي في القصيم.. انطلاق ثالث جولات دوري يلو السبت    الجديبا يطلق لوحته الجديدة.. و"الرأي" توثق الحكاية    تعليم جازان يحتفي باليوم الوطني ال95 تحت شعار «عزنا بطبعنا»    الرياض تحتضن المؤتمر العالمي لإنترنت الأشياء    ترسية مشاريع استثمارية لإعادة تدوير النفايات وخفض الانبعاثات الكربونية بالشرقية    "لين" توقع مذكرة تفاهم استراتيجية مع وزارة الصحة السورية    اليوم الوطني ال95... يوم فخر واعتزاز    مصيون أثر الاستيطان الأول بتبوك    1.7 مليون سجل تجاري قائم بالمملكة وفرص استثمارية ب50 مليار ريال في التعليم    مستشفى الحريق يحتفي باليوم الوطني ال 95 بإنجازات صحية نوعية    الدكتور عبدالله الربيعة يلتقي مفوضة الاتحاد الأوروبي للاستعداد وإدارة الأزمات والمساواة    الوحدة في بيئة العمل.. أزمة صامتة تهدد الإنتاجية    توصيات شوريًّة لإعداد القائمة الموحدة لأسعار القطاع الصحي العام    جمعية البر ببيشة تحتفل باليوم الوطني 95    المياه الوطنية: 1 أكتوبر المقبل فصل خدمة المياه نهائياً للعدادات غير الموثقة    الأمين العام للأمم المتحدة يحذّر من مخاطر الذكاء الاصطناعي ويدعو لحظر الأسلحة ذاتية التشغيل    الأسبوع العالمي للتبرع بالأعضاء.. دعوة إنسانية تمنح الأمل لآلاف المرضى    الدولار يقترب من أعلى مستوى له في ثلاثة أسابيع    محافظ محايل يرعى أحتفال الأهالي باليوم الوطني 95 في صدر الكرامة والذي نظمته بلدية المحافظة    إسقاط 55 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    بلدية وادي الدواسر تُفعّل مبادرات اجتماعية بزيارة المستشفيات    ولي عهد الكويت يشكر السعودية على دورها في دعم حل الدولتين    وزير الخارجية: لا يكفي إصدار البيانات ما لم تتحول إلى عمل حقيقي يغير واقع الاحتلال وعدوانه    رئيسة جمهورية سورينام تلتقي وزير الدولة للشؤون الخارجية    « البلديات والتجارة»: أبلغوا عن مخالفات السكن الجماعي    العمران والغراش يحتفلان بزواج مهدي    «راشد» يضيء منزل اليامي    القادسية إلى دور ال16 في كأس الملك    بزشكيان: طهران لن تسعى أبداً لصنع قنبلة.. إيران تتعهد بإعادة بناء منشآتها النووية المدمرة    أشرف عبد الباقي بطل في «ولد وبنت وشايب»    لجهوده في تعزيز الحوار بين الثقافات.. تتويج (إثراء) بجائزة الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري    المركز السعودي للموسيقى بجدة يحتفل باليوم الوطني    في احتفاليتها باليوم الوطني..ديوانية الراجحي: المملكة بقيادتها الرشيدة تنعم بالأمن والرخاء والمكانة المرموقة    الرئيس الأمريكي وقادة دول عربية وإسلامية في بيان مشترك: إنهاء الحرب خطوة نحو السلام    تصعيد متبادل بالمسيرات والهجمات.. والكرملين: لا بديل عن استمرار الحرب في أوكرانيا    كوب «ميلك شيك» يضعف تدفق الدم للدماغ    الرياض تستضيف مؤتمر العلاج ب«الجذعية»    الملك سلمان.. نبضُ وطنٍ وقلبُ أمة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الإبداع النسائي.. حكاية وطن    الخطاب الملكي صوت الدولة ورؤية الحزم والعزم    إنزاغي: سأعالج مشكلة الكرات الثابتة    عزّنا بطبعنا: التعليم ركيزة القيم الوطنية    فهد العجلان: ذكرى البيعة تجسد التحولات العظيمة وتمكين الإنسان في عهد الملك سلمان    «كلاسيكو» الاتحاد والنصر.. مقارنة القيمة السوقية بين الفريقين    لوحات تشكيليين تزين اليوم الوطني    تسعيني ينافس الشباب باحتفالات الوطن    اتحاد الكرة يدشن أخضر الفتيات تحت 15 عامًا    اليوم الوطني المجيد 95    البعثة الروسية لدى منظمة التعاون الإسلامي تحتفي باليوم الوطني السعودي ال95    رحيل المفتي العام السابق الشيخ عبدالعزيز آل الشي "إرث علمي وديني خالد "    "هيئة الأمر بالمعروف" تشارك في فعاليات اليوم الوطني 95    فقيد الأمة: رحيل الشيخ عبد العزيز آل الشيخ وعطاء لا يُنسى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أورهان باموق.. هذا الثرثار الرائع
نشر في الرياض يوم 23 - 06 - 2011

ما المسافة بين السارد أورهان باموق والكاتب أورهان؟ في تصوري أن المسافة بينهما ضيقة وقريبة إلى حد التطابق، ففي روايات أورهان تجد التدفق المنضبط، الذي لا يمكن أن يوصف بالثرثرة قدر ما هي البراعة في سرد حكايات نصوصه بخفة تتمازج فيها ألاعيب سرد الحكاية الشرقية مع عمق الروح الغريبة المتمكنة. وعندما تقرأ كتابه (ألوان أخرى)، الذي يضم مجموعة من أفكاره وتأملاته في قليل من أشياء الحياة وفي كثير من مباهج الكتب، فإنك ستكون تحت سلطة أسلوبه المشوق الذي يبدو فيه كما لو أنه يسرد رواية من رواياته، فهو الحكاء الماهر، الذي يحيل كل حكاياته الشخصية وتأملاته وتخيلاته وذكرياته إلى حكايات سردية متتالية وباهرة.
باموق، الذي يكتب الروايات منذ أكثر من ثلاثين عاماً هو ابن الكتب (كتبي هي حياتي)، لكن هذا التعبير ليس تعبيراً سلبياً، بل هو التعبير المناسب لرجل أدرك أن مهنته في الحياة هي الكتابة. لذا كان عليه أن يتبنى الحياة في داخل الكتب. أن يستوعب الأساليب والتقنيات التي كتبت بها الروايات وأن يتلذذ بعوالم القصص التي يقرأها وأن يجعل كائنه الروائي القابع في داخله يقظا متنبها لجماليات ما يقرأ، وكذلك عليه أن يجعل ذلك الكائن خاملاً، حالماً، مندهشاً حتى يجني السذاجة المحمودة حين يقرأ أو يشاهد الأفلام ويؤمن بما يدور فيها من أحداث وحكايات وشخصيات نحبها أو نكرهها لا فرق في ذلك، لكننا ندخلها في ذاكرتنا وعندها لا نعي الفرق القاطع بينها: أهي شخصيات جاءت من الحياة أم تراها جاءت من الكتب؟
شيطنة الطفل أو الطفل الشيطان
في كتاب (ألوان أخرى) ستشعر أن أورهان باموق إما أنه يروي حكايات من طفولته وإما يروي الحكايات بروح الطفل، الطفل المتشيطن، الذي يمتلك موهبة ما ويتباهى بها بين أقرانه. وقد بدا باموق طفلاً كثير التبجيل لوالده وهو ما نلاحظه في محاضرته التي ألقاها أثناء استلامه لجائزة نوبل وكذلك أثناء حديثه عن والده في الكتاب. يقول باموق "عندما كنت صبيا صغيرا، كنت أحب أن أتسلق إلى حجره أو أرقد إلى جانبه، وأشم رائحته وألمسه"، وكذلك عندما يخاطب باموق نفسه راجياً إياها "من فضلك لا تجعليني مثله". هذه الرغبة المستغربة من رجل يحب والده سببها فشله في أن يكون مثله، سعيداً بنفس القدر، مرتاحاً، خالي البال، ووسيما مثله. وبأسى شديد يقول باموق عن موت والده: إن كل رجل يبدأ موته بموت أبيه.
هذه الروح الطفولية التي تطغى على وجدان أورهان هي التي تجعله يبرع في الحكايات عن طفولته، رغم أنها حكايات عادية لكنها تستمد تميّزها من راويها، فهو قادر على أن يجعلها حكاية سحرية لذيذة تستدعي الدهشة. لكن هذا الانتماء الأبوي يقابله ما يشبه التغييب لعالم المرأة، فالمرأة غائبة عن سرده لسيرته الذاتية وأن حضرت فهي تحضر كجزء من حكاية، لكنها لا تصبح اللاعب الرئيس في تلك الحكايات. هناك الجدة، العمات، ابنته. أما الأم فيبدو دورها غير فاعل وغير مؤثر.
وإذا ما عدنا إلى بعض روايات باموق فسوف نجد هذا التغييب ممتدا إلى نصوصه، وعندما نستعرض رأيه في كتاب ألف ليلة وليلة سنجد تلك العبارة " في عالم ألف ليلة وليلة، لا توجد امرأة على الإطلاق يمكن الوثوق بها، لا يمكنك أن تصدق شيئا مما تقوله النساء، وهن لا يفعلن إلا خداع الرجال بألاعيبهن وحيلهن الصغيرة". وبهذا يتجلى السؤال: هل ألقت تلك الرؤية بظلالها على أورهان وجعلته يتحاشى أن يدون تفاصيله مع المرأة خالقاً نماذجه النسائية الروائية مثل شكورة وقذيفة واسترا على شاكلة نساء ألف ليلة وليلة!!
أروهان ابن الكتب
عندما يتحدث باموق عن الكتب، الكتاب، الكتابة فحتما ستشعر أنه يتحدث بتدفق، بفرح، وبنشوة كبيرة. إن هذه هي العوالم التي تروق له. هي حلمه وهي الكثافة التي يعيش من خلالها ليبصر الحياة ويتأملها ويكتبها ثم يتحدث عنها "الكتب أعادتني للحياة، الكتب في الغالب هي الشيء الذي أعطاني القدرة على الاستمرار". وعندما لا يجد في تلك الكتب ما يشبه تعاسته من قريب أو بعيد يشعر بالغضب. لذا فهو عندما يتحدث عن مكتبته لا يتباهى بندرة الكتب التي تحتويها أو عددها أو سيناريوهات شرائه لتلك الكتب بل تلمس التباهي المبجل بكيفية التعاطي مع تلك الكتب وكيف أن القارئ الجيد هو الذي يستطيع أن يجعل مكتبه تختزل المهم والمميز من الكتب فقط.
وعندما يشرح قصته في التخلص من بعض الكتب فهو يروي تلك القصة بوعي القارئ المتطلب (قليل من الكتاب الذين قرأت لهم في السنوات التالية تواطئوا في السنوات الأخيرة لجمع دليل حول مدى سوء كتبي). ومع هذا فهو يشعر بقليل من الامتنان لهؤلاء الكتاب لأنهم أخذوه في البداية بهذه الجدية لكنه يستشعر السعادة وهو يجد مبررا أفضل حتى من الزلال لإزالتهم من مكتبته، فقد تخلص، حسب قوله، من كتب أنصاف الموهوبين ، قليلي الجودة ومتواضعي النجاح.
إذا كان مبرر أورهان في بداية تعلقه بالقراءة هو الهروب من أحزان من الحياة اليومية ففي سن الشباب كانت القراءة مبررا لكي تمكنه من فهم العالم ومن تعميق وعيه ومن التجادل مع روحه: أي من الرجال ينبغي أن أكون؟
لكن باموق يشدد على مسألة الاستغراق في النص. فهي التي تقود إلى المتعة التي تمكنه من خلق الصيغة السينمائية العقلية الخاصة به فيما يقرأه من نصوص، لذا فهو يوجه نصيحته للقراء: لا بد أن يقبل القراء على الكتاب من دون أمل أو تحيز وأن يقرؤوه كما يحبون، متبعين تهويماتهم الخاصة، ومنطقهم الخاص.
أورهان باموق والحياة الحقيقية
عندما يكتب عن الحياة الحقيقية فستجد أن باموق يكتب بحماس أقل، ببهجة أقل، بفرح أقل. هذه المشاعر لا تعني أنه غير جاد مع الحياة لكنها تعني أنه استوعب الحياة وصراعاتها وحروبها ومآزقها، لذا فهو إن كتب فهو إنما يكتب من زاوية المتبصر بلعبة الحياة والمدرك لها لأن على الكاتب ألاّ يستنزف حياته في الصراع مع الحياة بل عليه أن يذهب إلى مرتفع التأمل لكي يكتب ما حدث وما يحدث وما سيحدث، لذا عندما يتساءل عن هوية الأتراك يقول: أزعجتنا كثرة الإشاعات حول من أين أتينا، من نحن، إلى أين نتجه، ومن الذي رسمنا؟ وفي جانب آخر يأتي على الحديث المتكرر عن أوروبا فيقول: ربما لا تشعر بالغضب الشديد، إذا كان السبب هو أن هؤلاء البشر ذوو النوايا الطيبة كانوا يركزون أنظارهم في الغرب. ولا أرى علامة على ذلك التفاؤل القديم، فدعنا نعد أنفسنا للأشياء الشريرة التي ينتوي أقاربي الغاضبون والتعساء أن يقولوها عن شرور أوربا. وباموق كرجل يعيش على حافة أوروبا يقول: ليس لنا من صحبة إلا كتبنا تصور أوروبا كحلم، مشهد لما سوف يأتي: طيف أحيانا نتطلع إليه وأحيانا أخرى نخشاه، هدف نريد تحقيقه أو خطر نريد أن نتقيه، مستقبل، ولكنها لا تأتي كذكرى.
إن باموق، وبعيداً عن مأزق الهوية والغرب، عندما يلتفت إلى الحياة البسيطة فأنه يستعذب هذه الحياة.
باموق والحديث عن الأنداد
عندما يتحدث أورهان باموق عن الروائيين العظماء بأي صوت يتحدث عنهم؟ صوته ليس واضحاً، أعني انه مزيج من الأصوات فهناك الصوت الوقور للقارئ المعجب بالنص من دون مغالاة ومن دون تبجيل أحمق، وبما إنه حائز على جائزة نوبل للآداب، فهو يتأمل تلك النصوص بصوت الند الذي يجادل بحياد. ويطغى على كل هؤلاء القارئ الفنان الذي يفرح بأنه اصطاد سر الجمال في تلك الروايات. فهو يقول عن تولستوي أو بروست بأنهما يحميان نفسيهما وأبطالهما بدرع من الجمال الفني وبهذا يحميان عالميها الروائيين من هذا النوع من الإسراف. ويعني بالإسراف هنا هو ما يفعله توماس برنهارد في التكرار الهاجسي الذي يتخذه أسلوبا في كتابة رواياته. أما فيكتور هوجو فلا ينال الرضا من باموق فيقول عنه: وجدته طناناً، متكلفا، مولعا بالتباهي، ومصطنعا ومثير للضجر في روايته التاريخية ninety –three فهو يصف في صفحات كثيرة مدفعا غير مربوط يلف خلفا وأماما على سفينة في عاصفة.
لكنه عندما يتحدث عن دوستويفسكي فأنه يتحدث عنه بافتنان (إن قراءتي الأولى لدستويفسكي بدت لي دائما علامة على اللحظة التي فقد فيها براءتي). وهو أيضا يعبر عن تأثير قراءة رواية الأخوة كارامازوف فيه عندما قرأها لأول مرة : لقد جعلتني اشعر بأنني لست وحيدا في هذا العالم لكنها أيضا أشعرتني بأنني عاجز ومعزول عن الآخرين. أنها من الروايات العظيمة التي معظم إيحاءاتها الصادمة كانت أفكارا جالت بخاطري. ويرى باموق أننا عندما نقرأ لديستوفيسكي فأن الأشياء التي نتعلمها عن أنفسنا تجعلنا نشعر بكل هذا الخوف.
انه الرعب الذي يسببه هذا الروائي لقارئ مثل باموق، فهو يرى بأن أبطال ديستويفسكي أرواح معذبة تلاحقنا وهم مختلفون عن أبطال كتاب آخرين مثل ديكنز الذي يخلق شخصيات لا تنسى ولكن غالبا نتذكرها لغرابتها وما فيها من تميز.
أما نابوكوف مؤلف رواية لوليتا الشهيرة فهو يحظى بتبجيل باموق الذي يرى فيه روائيا مختلفا يميزه جمال الأسلوب النثري لكن هذا الجمال وبحسب تعبير باموق يتستر على شيء دائما شرير، نفحة من الطغيان. فعندما يقرأ باموق نابوكوف فإن رد فعل الحياة مثل ذلك، الكاتب يقول لنا أشياء اعرفها تماما، لكن بطريقة صادمة وصدق يجلب الدموع إلى عيني في اللحظة المناسبة. واعتبر باموق أن نابوكوف كاتب متكبر وواثق من نفسه يعرف جيدا مواهبه في وضع (الكلمة المناسبة في المكان المناسب).
أورهان باموق في حديثه عن فارجاس يوسا تشعر أنه يتحدث عن الند المعاصر. لكن تلمس عدم الرضا عن تجربة يوسا أو لنقول عدم الانبهار حتى وان قال انه كتاب رائع وشديد التأثير.
فباموق يرى أن يوسا الذي يزعم انه تحديثي قد حول نفسه إلى انثربولوجي بعد حداثي وان الطقوس والأساطير في رواية جبال الإنديز حضرت بأكثر مما تحتاجه القصة، ربما لأن يوسا يمثل أدب العالم الثالث ويمثل أدب الأطراف فإن هاجس الندية قد حضر وباموق يتحدث عن يوسا. أما حديثه عن سلمان رشدي فهو حديث عن الضجيج الذي أثارته رواية آيات شيطانية وما كتبه باموق عن تلك الرواية ليس بدافع الإعجاب الحقيقي عن الرواية ولكن دفاع عن حرية الإبداع فهو يقول: قام الأئمة الذين لم يقرؤوا أبدا أية رواية بأداء الطقوس للمصلين الذين لم يقرؤوا روايات أبدا، وصحفيين لم يقرأوا هم أيضا هذه الرواية، قائلين إن هذه الرواية تمثل مشاكل عقائدية للمؤمنين الذين بدورهم لم يقرأوها بدورهم ثم بدأوا يصوغون مانشتات مريعة ومخجلة لا علاقة لها بالعقيدة على الإطلاق: هل ينبغي قتله أو لا ينبغي قتله؟
الروائي أروهان باموق
باموق وهو يتحدث عن الكتب والقراءة والروائيين يتحدث ببهجة. لكنه عندما يتحدث عن رواياته فإن هذه البهجة تأتي مضاعفة ويصاحبها كثير من الفخر والاعتزاز بما أنجزه في مشواره الكتابي، وهو الذي تفرغ للكتابة في سن مبكرة وحقق ما يحلم به أي كاتب في هذه الدنيا وهو الانتشار والتقدير والجماهيرية الطاغية ومعها جائزة نوبل والتي حصل عليها وهو في الأربعين وهذا أعمق تقدير لتجربة باموق الروائية.
كواليس كتابة باموق لرواياته ليست سرا، لا يعدها ذات خصوصية. فهو بمقدار متعته بكتابة الرواية هو أيضا يستمتع عندما يتحدث عن كيفية كتابته تلك الروايات فهو يقول عن روايته "القلعة البيضاء": جاءني الإلهام في شكله الشبحي لكتابتها بينما كنت انهي روايتي الأولى جودت بيه وأبناؤه ومن التفاصيل المهمة التي يذكرها باموق عن روايته القلعة البيضاء هو اختيار زمن الرواية في أواسط القرن السابع عشر ليس لان ذلك الوقت ملائما تاريخيا ولكن لأن ذلك سوف يتيح لشخصياتي استخدام كتابات نعيمة وأوليا تشلبي.
هذا الذكاء في اختيار زمن الرواية لا يدلّ فقط على أن هذا الشاب، الذي يكتب روايته الثانية في ذلك الوقت، يعول على أن يكون علامة في السرد العالمي فحسب بل ويدل على مدى جديته في كتابة النص وهو الذي قرأ كثير من المخطوطات وكتباً في علم الفلك والتنجيم من اجل أن يكتب روايته القلعة البيضاء.
وفي رواية "الكتاب الأسود" يتحدث باموق عن مأزقه مع كتابة النهاية لتلك الرواية التي قضى في كتابتها خمس سنوات وكيف كان خوفه من الفشل في إيجاد النهاية المناسبة لنص اعتبره القراء فيما بعد نصا غامضا. وقاده القلق والخوف من عدم التوفيق في كتابة النهاية لأن يعيش أيامه شبيها ببطل روايته "غالب" فأهمل حلاقة ذقنه ولم يعد مهتما بملابسه وأصبح يتجول في الشوارع حزينا ومتألما. ذلك الامتزاج مع بطل روايته قاده في الأخير في كتابة نهاية تليق ببطله وروايته.
في رواية "ثلج " كشف سر كتابته لتلك الرواية التي تخوض في الشأن السياسي التركي وكيف تجلت روحه البراغماتية فهو ذهب إلى مدينة كارس بحجة أنه الصحفي الذي سيكتب عن فقر ومشاكل المدينة، لكنه بعد أن جمع من أفواه الناس حكايات المدينة دونها في روايته ثلج، ومع اعترافه بالخديعة و إحساسه بالذنب يقول: دعوني اكتب روايتي كما اعتقد أنها يجب أن تكون من القلب، أفضل شيء أن افعله من أجل الناس في كارس هو أن أكتب من القلب، أن أكتب رواية جيدة.
في حديثه عن رواية اسمي أحمر، وهي الرواية الأكثر شهرة والأكثر تميزاً في روايات باموق يقول: أسمي احمر عمل شاق مجهد تحملته بحماس طفولي وجدية مخلصة.ونشعر في حديثه هذا بمدى تفوقه على نفسه وحتى على شغفه بالمنمنمات الإسلامية في أن يأخذ هذا الشغف في بناء سردي رائع لروايته اسمي احمر - التي لا يرى أن قضيتها تنازع الشرق والغرب بل أنها العمل الشاق الدؤوب لفنان المنمنمات - معاناة الفنان وإخلاصه الكامل لعمله - فباموق ينظر إلى روايته هذه على أنها عن الفن والحياة والزواج والسعادة والخوف من ضياع الفن.
كذلك يرى باموق أن بطل الرواية الحقيقي في اسمي احمر هو الحكاء وبمثل هذا الاعتراف من باموق فإنه يقودنا إلى استلهامه من روح كتاب ألف ليلة وليلة في بناء روايته فهو يقول عن ذلك الحكاء: كل ليلة يذهب إلى مقهى ليقف بجوار صورة ويحكي حكاية. وقد بدا باموق غير راضٍ تماماً عن حبكة النص البوليسية لأنه وجدها، فيما بعد ربما، وكأنها مقحمة ولم تكن نابعة بإخلاص حقيقي من داخل قلبه، بينما في تصوري، أنه لولا تلك الحبكة البوليسية لما كانت الرواية جاذبة للقارئ في ظل الحديث عن فن غامض وملتبس كفن المنمنمات الإسلامية.
باموق صديق قارئه
الحديث عن أورهان باموق في كتابه ألوان أخرى لا ينتهي، فهو مغر للكاتب والقارىء معاً. لقد بدا الكاتب قريباً من نفسه ومن عوالمه التي يكتبها وهو كذلك قريب من قارئه وقريب من الحياة ومن البساطة ومن غوايات السرد الآسرة. إنه الحكاء الساحر والطفل النرجسي المتباهي الذي تقبل بنرجسيته لأنه يمتلك موهبة استثنائية تجسّدت في كتابته الرائعة. أن القارئ يشعر وبتفهم الجهد المضاعف الذي يبذله أورهان باموق في إثبات حضوره العالمي كروائي يأتي من الأطراف.
إن كتاب "ألوان أخرى" مهم لكل روائي شاب موهوب بشكل حقيقي يريد أن يجني مباهج الكتابة فباموق يقدم سيرته الروائية بجمالية بذل في سبيلها كثير من الوقت والجدية والعمل الشاق لكنها قادته إلى المجد والشهرة والأضواء. قادته إلى أن يلغي ذلك السؤال المهاب من أمه: لماذا تكتب؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.