جامعة جازان تطلق برنامجًا تدريبيًا في الذكاء الاصطناعي    بدء استقبال الترشيحات لجائزة مكة للتميز في دورتها السابعة عشرة    المدينة الطبية بجامعة الملك سعود تجري أول زراعة لغرسة قوقعة صناعية ذكية بالشرق الأوسط وأفريقيا    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة قاع الثور    احتلال مدينة غزة جزء من خطة استراتيجية تنتهي بالتهجير    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ أكثر من 1000 منشط دعوي خلال شهر محرم    تراجع أسعار الذهب    إنهاء معاناة مقيمة عشرينية باستئصال ورم وعائي نادر من فكها في الخرج    أمير تبوك يستقبل المواطن ناصر البلوي الذي تنازل عن قاتل ابنه لوجه الله تعالى    أمير تبوك يدشّن ويضع حجر أساس 48 مشروعًا بيئيًا ومائيًا وزراعيًا بأكثر من 4.4 مليارات ريال    الهولندي "ManuBachoore" يحرز بطولة "EA Sport FC 25"    أوروبا تعلن استعدادها لمواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا    أميركا ومحاربة الفقر    غزة تودّع عشرات الشهداء جلهم من المجوّعين    شدد الإجراءات الأمنية وسط توترات سياسية.. الجيش اللبناني يغلق مداخل الضاحية    مقتل واعتقال قيادات إرهابية بارزة في الصومال    مجهول يسرق طائرة مرتين ويصلحها ويعيدها    نسمة القمم    الرئيس الذهبي    السوبر.. وهج جماهيري وخفوت قانوني    النصر يسعى لضم لاعب إنتر ميلان    القادسية يعترض على مشاركة الأهلي في السوبر    ثنائي ريال مدريد على رادار دوري روشن    ارتفاع الرقم القياسي للإنتاج الصناعي 7.9 %    النيابة العامة: رقابة وتفتيش على السجون ودور التوقيف    «منارة العلا» ترصد عجائب الفضاء    «الهلال الأحمر بجازان» يحقق المركز الأول في تجربة المستفيد    منى العجمي.. ثاني امرأة في منصب المتحدث باسم التعليم    تشغيل مركز الأطراف الصناعية في سيؤون.. مركز الملك سلمان يوزع سلالاً غذائية في درعا والبقاع    حساب المواطن: 3 مليارات ريال لدفعة شهر أغسطس    استقبل المشاركين من «إخاء» في اللقاء الكشفي العالمي.. الراجحي: القيادة تدعم أبناء الوطن وتعزز تمكينهم بمختلف المجالات    والدة مشارك بالمسابقة: أن يُتلى القرآن بصوت ابني في المسجد الحرام.. أعظم من الفوز    البدير يشارك في حفل مسابقة ماليزيا للقرآن الكريم    260 طالبًا بجازان يواصلون المشاركة في «الإثراء الصيفي»    عبر 4 فرق من المرحلتين المتوسطة والثانوية.. طلاب السعودية ينافسون 40 فريقاً بأولمبياد المواصفات    رانيا منصور تصور مشاهدها في «وتر حساس 2»    كشف قواعد ترشيح السعودية لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم    إطلاق مبادرة نقل المتوفين من وإلى بريدة مجاناً    ثمن جهود المملكة في تعزيز قيم الوسطية.. البدير: القرآن الكريم سبيل النجاة للأمة    حسام بن سعود يطلع على برامج جامعة الباحة    سعود بن بندر يستقبل مدير فرع رئاسة الإفتاء في الشرقية    الإفراط في استخدام الشاشات .. تهديد لقلوب الأطفال والمراهقين    ضمادة ذكية تسرع التئام جروح مرضى السكري    185% نموا بجمعيات الملاك    ترامب يعلن خطة لخفض الجريمة في العاصمة الأمريكية    مجمع الملك عبدالله الطبي ينجح في استئصال ورم نادر عالي الخطورة أسفل قلب مريض بجدة    مصحف "مجمع الملك فهد" يقود شابًا من "توغو" لحفظ القرآن    نائب أمير جازان يزور نادي منسوبي وزارة الداخلية في المنطقة    رونالدو يتألق.. النصر ينهي ودياته بالخسارة أمام ألميريا    الأخضر الناشئ لكرة اليد بين أفضل 16 منتخبًا في العالم.. و"العبيدي" يتصدر هدافي العالم    42% من السعوديين لا يمارسون عناية ذاتية منتظمة و58% يشعرون بالإهمال العاطفي    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمنطقة    جامعة الملك فيصل تفتح باب التسجيل في البرامج التعليمية إلكترونيا    جمعية "نبض العطاء بجليل" تطلق مبادرة أداء مناسك العمرة    القيادة تعزّي رئيس غانا في وفاة وزير الدفاع ووزير البيئة ومسؤولين إثر حادث تحطم مروحية عسكرية    الشمراني عريساً    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غياب الاستجابة وليس غياب الريادة
نشر في الرياض يوم 07 - 03 - 2010

يتحدثون كثيراً بحسرة ومرارة في المجتمعات المتخلفة عن غياب الإبداع وعن قلة المبدعين ويعزون التخلف إلى هذا الغياب المتوهَّم لكن من يتأمل تاريخ الحضارة ويهتم بمعرفة أسباب التحولات الظافرة يجد أن الشطر المهم في العملية الحضارية هو استجابة المجتمعات لروادها ومبدعيها فلا أثر للإبداع ولا تفع فيه إلا بمقدار ما تستجيب له المجتمعات وتتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً كافياً فعملية التقدم الحضاري لا تنهض أبداً بجناح واحد وإنما تنهض بجناحين هما: جناح الريادة في الفكر والفعل ، وجناح الاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية وهذا الجناح الأخير هو الأهم وهو الذي يتكرر غيابه في الماضي والحاضر وتعاني المجتمعات المتخلفة من هذا الغياب أما الرواد والمبدعون فإنهم لا يمكن أن يغيبوا في أي مجتمع غياباً كاملاً خصوصاً في هذا العصر المفتوح على كل الانجازات الإنسانية لأن من يملك بصيصاً من استقلال التفكير وقدرة التحليل سوف يطلع على الأفكار العالمية فيستنير عقله وتمتد رؤيته خارج الأطواق السائدة كما أن الريادة لا تحتاج كثرة في العدد بل المهم تقديم أفكار خلاقة حتى ولو من فرد واحد فما من مجتمع إلا ويظهر فيه مفكرون رواد ومبدعون لكن في المجتمعات ذات الثقافات المغلقة يكابد الرواد والمبدعون مرارات الرفض والإقصاء والتهميش والاستنكار وربما ما هو أشد وأقسى وأمرّ ومن هنا يستمر التخلف رغم تتابع ظهور الرواد والمبدعين..
إن الريادة تظهر في أي مكان حيث لا يتوقعها أحد فهي نتاج ذاتها أي أنها ليست نتاج المحيط الذي ولدت ونشأت فيه وإنما الرائد يملك قدرة التجاوز والامتداد في الآفاق العالمية فالريادة تأتي دائماً مخالفة للسائد ومتجاوزة له ومتقدمة عليه وغير راضية عنه وذات اهتمامات مختلفة عما هو سائد فيه وهي لا يمكن أن يُنتجها التعليم النظامي لأنها مغايرة له فهي غير نمطية وهذه المغايرة هي التي تجعل الريادة مرفوضة في البيئات المغلقة ومحاَبة من المؤسسات المسيطرة ومن عامة الناس وبسبب ذلك لا يستفاد من الرواد والمبدعين فيدوم التخلف فليس تقدم العلوم وطفرات الأفكار وتحولات الحضارة وتجدد الإبداع وارتقاء الأوضاع في كل المجالات سوى سلاسل من الشواهد المتنوعة التي تؤكد أن الإبداع في الفكر والعلم والاختراع والفن والسياسة والإدارة والأداء لا يكون إلا خارج الأعراف السائدة ومنفكاً من الأطواق المدرسية والاجتماعية والثقافية أما البقاء في دائرة السائد فلا يضيف جديدا بل بالعكس يكون محكوماً بالتآكل والتناقص وفق قانون الإنتروبيا وينبغي عدم توقُّع الإبداع ممن يظهرون تفوقاً في التعليم النظامي مهما حملوا من ألقاب إلا إذا ظهرت فيهم سمات التفرد فإذا أبدع بعض من كانوا متفوقين دراسياً فإن رياداتهم الإبداعية ليست مدينة للأجواء المدرسية أو البيئية الثقافية بل بالعكس إنما هم بإبداعاتهم يكونون قد اكتشفوا فظاعة التدجين الثقافي وتجاوزوا التلقين المدرسي وتعرت أمامهم نقائص ما عايشوه وما درسوه فلم يقتنعوا فيه ولم يقنعوا به فتجاوزوه وربما ظهرَ لهم بأن ما تربوا عليه وما درسوه يدفعهم في الاتجاه الخاطئ فيرفضونه ويحاولون إظهار أخطائه وكشف نقائصه وبذلك ينتقلون من مستوى الانقياد التلقائي البليد إلى مستوى الريادة الفردية الفاحصة والمصححة فإذا استُجيب لهم تحسنت الحياة وارتقت الأوضاع وتقدمت الحضارة.
إن الريادة لابد أن تكون مباينة للتلقائية العامة السائدة وهي شرط إيقاظها ودفعها إلى الصعود فتحريك التلقائية ونقدها وكشف المعوقات فيها وتقديم تصورات بديلة عما هو سائد هي شروط الارتقاء فلا يمكن أن يتحسن أي واقع اجتماعي إلا بالتكامل بين الريادة الخلاقة والاستجابة العامة، إن هذه الحقيقة ثابتة تاريخياً كما أنها بدهية منطقياً وعملياً فالواقع القائم لا يمكن أن يغير ذاته تلقائياً فهو محكوم بقانون القصور الذاتي القاطع فلا يحصل التغيير إلا بظهور رواد بارعين يملكون رؤى إيجابية مغايرة للسائد ومتقدمة عليه ولكن لا جدوى من ظهور الرواد ولا من رؤاهم المضيئة إلا بمقدار استجابة المجتمع للريادة وقبوله للأفكار الرائدة أما عامة المتعلمين فإنهم يرسخون الواقع فهم ذائبون فيه ومندفعون في نفس اتجاهه ولا يملكون رؤى مغايرة له حتى لو حملوا ألقاباً أكاديمية رنانة أو امتلأت رؤوسهم بمسائل علمية معزولة عن السياق العام وحفظوا الكثير من المعادلات والقوانين التخصصية في العلوم الحديثة المختلفة إنهم بذلك يملكون بعض معلومات وبعض مهارات وبعض شكليات تسهم في توطيد الواقع المتخلف وليس في تطويره لأن المجترّ الذي يبقى في نطاق الترديد لا يمكن أن يكون رائداً أو مبدعاً أو متحفزاً للجديد المغاير ولا حافزاً غيره إليه بل إنه في الأصل الغالب يتبرمج بكُره الريادة والخوف من الإبداع فيصير مناهضاً للرواد ومناكفاً للمبدعين مهما حمل من ألقاب أو حصل عليه من شهادات ومهما ساح وتجول في العالم.
إن هذا الاختلاف النوعي بين رؤية الريادة الإيجابية الخلاقة ورؤية الثقافة الاجترارية السائدة لابد أن يؤدي في الثقافات المغلقة التي تعيش أوهام الكمال والاكتفاء إلى سوء الفهم وما ينتج عنه من الإقصاء والرفض والمقاومة وعدم الاستجابة وفوات فرصة الاستفادة من الأفكار الخلاقة ويترتب على ذلك استمرار تدهور الأوضاع ودوام التخلف لعدم التكامل بين الريادة والاستجابة فصوت الريادة في الثقافات المغلقة المكتفية هو صوت مدان ومقموع ومستبعد فليس له أي تأثير إيجابي وإنما بالعكس تنتج عنه ردود أفعال متشنجة تؤدي إلى المزيد من تشييد الحصون المانعة وإقامة المتاريس وتعبئة العقول ضد الاستنارة وحشد العواطف لمحاربة الرواد وعدم الاستماع لهم كما كان يفعل المشركون لمواجهة القرآن: «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه» وكما فعل فرعون الذي ألّب الناس على موسى عليه السلام وحذرهم منه وزعم أنه «يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره» ويتكرر الموقف مع كل الأنبياء وجميع المصلحين وكافة المفكرين الرواد وبسبب ذلك يستمر سوء الأوضاع ويتفاقم التدهور رغم توفر إمكانات الازدهار.
إن الريادة لا تؤتي أي ثمار أو نتائج إيجابية إلا بمقدار ما يستجاب لها فهي كالنداء في الفضاء الفارغ ما لم يتفاعل المجتمع معها تفاعلاً إيجابياً كافياً فليس للريادة الفكرية أو العملية أي أثر إيجابي يتجسد في حياة المجتمع ويلمس الناس نتائجه ما لم تتحقق لها الاستجابة الكافية ؛ فاستمرار تخلف الكثير من المجتمعات لا يعود إلىعدم وجود رواد ومفكرين ومبدعين لأن الرواد يظهرون في كل المجتمعات ومع ندرتهم فإنه لا يوجد مجتمعات محرومة حرماناً كاملاً منهم فاستمرار التخلف سببه الحقيقي غياب الاستجابة للريادة وليس الافتقار إلى الرواد فما من مجتمع يخلو منهم خلوَّا تاماً لكنهم يكونون دائماً سابقين لمجتمعاتهم ومنفردين برؤاهم ومتقدمين على المجتمعات في طريقة تفكيرهم وفي اتجاه جهدهم وفي أنواع اهتماماتهم ويحلّقون خارج السرب .. إنهم يتقدمون المجتمع ويخلصون له لكنهم يختلفون عنه في الرؤية ويتخاصمون معه لمصلحته فلا يندمجون فيه ولا يستسلمون له ولا يقبلون جموده ورتابته واستمرار دوراته مع ذات المسارات العقيمة فهم حداة التقدم ورواد الازدهار وحاملو أعلام التغيير نحو الأفضل لكن أمراض المجتمعات هي أمراض ثقافية تجعل المأخوذين بها يعزون التخلف لغير أسبابه ، ويحاربون بضراوة من يحاول تحليل الواقع وتشخيص أمراضه وإبراز معوقات النمو الحقيقية فمن أصعب الأمور أن تعترف الثقافات بأمراضها أو تقر بقصورها ، ومن المحال أن يكتشف عامة أهلها حقيقة القيود المأسورين بها بل كلما تعددت أمراضها وتفاقم قصورها وتنوعت قيودها واشتدت حاجاتها إلى التغذية من خارجها اشتد انتفاشها وتعاظمت ادعاءاتها بالكمال والاكتفاء ، واستحكم انغلاقها فبقدر استحكام موانع النهوض يشتد الرفض وتلتهب المقاومة فالمجتمع المتخلف ثقافياً يرفض بشراسة أن يعترف بأمراض ثقافته لأنه مغتبط بها ويعتبرها مصدر فخره وعنوان مجده ودلالة امتيازه ومن هنا تتكاثف أسباب الرفض لأي فكر خلاق وبسبب ذلك يستمر التخلف رغم كل الإمكانات التي فجرتها أفكار العصر ومناهجه وعلومه وتقنياته ومهاراته وأساليبه ونظمه ووسائل العمل فيه.
إن مباينة الريادات الإيجابية للثقافات السائدة هي السمة المميزة للإبداع والريادة فالريادة لا تُحسب للمجتمع إلا بمقدار استجابته لها فإذا استجاب إيجابياً حُسبت له أما إذا استجاب سلباً ورفضاً كما حصل مع ابن رشد وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم من رواد الفكر والعلم فإن الريادة تحسب ضده وتعد برهاناً على افتقاره إلى قابلية النمو وعجزه عن التجدّد وبهذا يتأكد أنه يعيش ثقافة مغلقة عقيمة غير قادرة على التقدم ومملوءة بموانع النهوض ولكن هذه الحقيقة الأساسية ما زالت في المجتمعات العربية غائبة تماماً عن وعينا بشكل بلبلَ الأفهام وأزهق الآمال وأربك الباحثين وأضاع الجهود وبدد الوقت واستنزف الطاقة وأبقانا متخلفين وعاجزين عن مبارحة المسارات العقيمة وجعلنا غير قادرين على الاهتداء إلى نقطة البداية التي تقود إلى الازدهار فغياب هذه الحقيقة الأساسية قد أدى إلى إغفال أشد الحقائق أهمية وأقواها تأثيراً فارتقاء الأفراد وازدهار المجتمعات منبعهما الريادة الإبداعية والاستجابة الاجتماعية أما من غير هذا التكامل العضوي فإن المجتمع المتخلف لابد أن يبقى يدور في مسارات التخلف.
إن الرواد المؤسسين هم الذين أبدعوا العلوم والفنون وابتكروا المناهج والوسائل وأنتجوا الأفكار والأساليب وطوروا المهارات والأدوات وفتحوا آفاق التقدم والازدهار فهم قادة الفكر والفعل ولكن لا تأثير للريادة ولا نفع فيها إلا بمقدار الاستجابة لها والسير خلفها إن المبدعين والرواد هم الذين يأتون بالإضافات الخلاقة أما عامة الدارسين في مختلف المستويات ومن كافة التخصصات فليسوا سوى مستخدمين لما أنجزه الرواد المبدعون فالناس لم يأتوا إلى الأرض ليجدوا العلوم والفنون والمناهج والأساليب والنظم وأنواع المهارات والمخترعات والإبداعات جاهزة وإنما شيدها الرواد الخارقون وأنجزها المبدعون لأنهم اخترقوا الحواجز الثقافية فتجاوزوا المألوف وخرجوا من كهوف المعتاد واكتشفوا المجهول وعرفوا طبيعة الدوافع والموانع ووصلوا إلى ما لم يصل إليه غيرهم ، وعرفوا ما لم يعرفه سواهم وابتكروا من الأساليب الناجعة والرؤى الرائدة ما لم يكن معروفاً قبلهم ثم جاء الدارسون ومعلموهم ليغْتذوا بما هو جاهز ويستخدموا ما هو منجَز ويرددوا ما أبدعه الرواد فالقدرة الإبداعية لا يمكن تلقينها بالمدارس والجامعات ولو كانت كذلك لأمكن بسهولة أن تمتلئ الأرض بالمبدعين .. إن القدرة الإبداعية تنبع من داخل الذات ولا تحقن من خارجها فالإنسان كائن تلقائي فلا تستجيب قابلياته إلا برغبته واستمتاعه فالإبداع لا يمكن أن يخطط له على هذا النحو السهل الساذج وإنما هو ثمرة من ثمار العقل الفاحص والعاطفة المتأججة والاهتمام التلقائي القوي المستغرق ، إنه نتاج التفرد في التفكير والتمرد على التدجين ونقض برمجة الطفولة ، والقدرة على استعادة الذات وإعادة بنائها وتعبئتها برؤية مغايرة وتفكير مختلف.
إن الإبداع لا ينبع إلا من توتُّر داخلي شديد ، إنه يفيض تلقائياً وهو يتكون بالتلاحم الوثيق بين يقظة العقل وتأجج الوجدان فهو فيضان من الداخل وليس حقناً من الخارج ، إنه يتطلب قابلية ذاتية من داخل النفس كما يتطلب تلهفاً صادقاً وانفتاحاً واسعاً على كل المؤثرات من خارج الذات إنه نتاج الشعور بالحاجة والإحساس بالمتعة إنه ثمرة التعبئة الذاتية الواعية المدفوعة برغبة ملحة ولهفة متأججة..
إن التعبئة الإبداعية لا تأتي بالأمر والنهي وإنما هي نتاج الاهتمام التلقائي المتأجج والحساسية الشديدة للمؤثرات ، إن المبدع مدفوع تلقائياً إلى البحث عن الفهم في كل الآفاق وعدم الاكتفاء بالإجابات الجاهزة ووضع كل إجابة وكل رأي وكل اتجاه وكل مسلّمة وكل بداهة تحت كواشف المراجعة والفحص والتحليل والمقارنة والتحقق .. إن الرائد العلمي يكون مسكوناً بحب الحقيقة فينقب عنها في كل الزوايا ويتعرف عليها بكل الطرق وعند كل الاتجاهات ، ويحاول أن يعثر عليها وأن يستخرجها من بين ركام الأوهام والادعاءات والتناقضات ، إن هذا لا يمكن أن يحصل إلا برغبة ذاتية قوية تلقائية من داخل الذات وليس اضطراراً من أجل الحصول على شهادة أو نحوها، إن الإقبال على التنقيب والبحث والاستقصاء عند الرائد العلمي يأتي اندفاعاً وليس اضطراراً فالمندفع ذاتياً يملك قدرة استثنائية على النفاذ والاستيعاب والفهم ويستطيع التركيز القوي والمثابرة المستمرة باستمتاع ودون ملل أو كلل بل يعيش بالبحث أعظم المباهج وأعلى المتع إنه يملك إخلاصاً صادقاً للحقيقة ، ورغبة متوقدة للمعرفة فتتشابك في داخله كل الطاقات الكامنة وتتضافر كل القابليات المخبوءة ويتحول هذا الهمّ إلى اهتمام قوي مستغرق وإلى جهد منظم وهذا لا يكون إلا من نصيب أفراد معدودين فالشهادات مهما علَت ليست دلالة على وجود القدرة الإبداعية ولا على الرغبة في الحقيقة ولا على اكتساب الروح العلمية بل العكس هي في الغالب دلالة على قابلية غياب التفكير المستقل واستحسان التقليد البليد والانقياد الأعمى والإمَّعية المستحكمة.
إن غياب هذه الحقيقة الأساسية عن الأذهان في المجتمعات المتخلفة قد أسهم إسهاماً رئيسياً في استمرار العقم ودوام الكلال وكما يقول العالم المفكر عبدالله العلايلي: «فإن الخاضع لتأثير ما ترفض نفسه كل تأثير من نوع آخر إلا إذا كان للتأثير الجديد تيار شديد جارف» فعلى مستوى المجتمعات فإن أقدمية ثقافة التخلف ورسوخها ومتانة كيانها واستمرار إغلاق منافذها وحراسة أبوابها وتبرمج الأجيال بها وقيام قوات متحفزة وشرسة وقوية لحراسة الحصون الثقافية وعدّ الأنفاس ومراقبة النشاط بل إن الحصون الثقافية تتضاعف كلما امتد الزمن أما الأصعب من كل ذلك فهو احتماء ثقافة التخلف بالولاء العاطفي الكلي التلقائي لها من المنتمين إليها والمبرمجين بها إن كل هذا يصونها ويحميها من أي مؤثر ما لم يكن مؤثراً قوياًجارفاً أما على مستوى الأفراد فإنهم لا يتقبلون أفكاراً تتعارض مع ما تبرمجوا به في طفولتهم حتى لو تلقوا هذه الأفكار خارج أوطانهم في أرقى جامعات العالم كما تؤكد ذلك شواهد لا حصر لها من الذين ذهبوا في بعثات دراسية من مختلف بلدان العالم الثالث وحصلوا على شهادات أكاديمية عليا ولكنهم عادوا أشد انغلاقاً مما كانوا قبل ذهابهم!!!
إن شواهد لا حصر لها تؤكد أن التعليم الرتيب لا يغير طريقة التفكير ولا يعيد ترتيب محتوى الأذهان إلا بزلزلة المسلّمات المعوّقة لتنفتح بها أبواب العقول المغلقة أما القدرة على حفظ المقررات المدرسية العلمية ومواصلة النجاح فيها والتفوق في الانصياع والترديد فليست دلالة على حصول أي تطور ذهني وليست سبيلاً إلى توطين العلم ولا إلى حسن الأداء بل هي تؤكد استمرار الذوبان في الثقافة السائدة.
إن واقع المجتمعات وتاريخ العلم يقدمان الدليل إثر الدليل على العنصر الأساسي الأكثر أهمية في المعرفة العلمية وهو تغيّر طريقة التفكير وتبدل منظومة القيم وانبعاث الشوق المتلهف إلى المعرفة الممحصة وليس حفظ المسائل والمعلومات والمعادلات والقوانين العلمية فالانتقال من طريقة تفكير تبرمَج بها العقل منذ طفولته وتغذى بها طول حياته لا يمكن أن يتحقق بحفظ معلومات مهما كانت دقيقة لأن العلم انتقال نوعي في طريقة التفكير ومقومات التحقق ومجالات الاهتمام ومعايير التقييم إنه انفتاح على كل الروافد واستعداد للتعرف على كل المسارات ، إنه مبارحة واقع ذهني راسخ ومستحكم وغير علمي جرى التبرمُج به تلقائياً وتشرَّبته الذات تشرباً كاملاً بشكل عفوي فانعجنت به والخروج منه إلى واقع ذهني علمي مغاير كلياً وطارئ يتناقض في الغالب مع الكثير مما امتلأت به العقول وتطبعت به النفوس .. إنه انتقال نوعي يبدّل وظيفة العقل من السلبية إلى الإيجابية ومن الانفعال السلبي إلى الفاعلية الإيجابية ولكن هذا الانتقال النوعي لا يحصل تلقائياً بالتعليم الرتيب وإنما يتطلب استنارة استثنائية وجهوداً عظيمة ومثابرة صادقة ورغبة جياشة، واهتماماً تلقائياً قوياً مستغرقاً وهذا الدور لا يمكن أن ينهض به التعليم النظامي الرتيب مهما تنوعت موضوعاته العلمية ومهما ارتقت مستوياته إلا إذا كان مسبوقاً ومصحوباً بنهضة فكرية عامة وقوية ومفتوحة ومتعددة الاتجاهات تنير الأذهان وتفتح الأقفال أما المعلومات مهما بلغت دقة وتنوعاً فإنها غير قادرة على تحقيق هذه النقلة النوعية في طريقة التفكير وفي اتجاهات الجهد وفي مسارات الاهتمام فلابد من نهضة فكرية تهيئ المجتمع للتفاعل مع الأفكار والمعارف وإلا فإنها تتحول لخدمة التخلف وتكريسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.