انطلاق فعاليات شهر التصلب المتعدد بمسيرة أرفى بالشرقية    باكستان تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    توافق سعودي – أذربيجاني على دعم استقرار "النفط"    مصر: الفنانة السورية نسرين طافش تستأنف على الحكم بحبسها 3 سنوات.. الأربعاء    جيرارد: محبط بسبب أداء لاعبي الاتفاق    غاياردو يغيب عن المؤتمر الصحفي بعد ثلاثية أبها    جوتا: لا نفهم ماذا حدث.. ونتحمل مسؤولية "الموسم الصفري"    توقعات بهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    التسمم الغذائي.. 75 مصاباً وحالة وفاة والمصدر واحد    رحل البدر..وفاة الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن عن عمر ناهز ال75 عاما    "زرقاء اليمامة" تفسر أقدم الأساطير    "تسلا" تقاضي شركة هندية لانتهاك علامتها التجارية    الذكاء الاصطناعي يبتكر قهوة بنكهة مميزة    3 مخاطر لحقن "الفيلر" حول العينين    بدء إجراءات نقل السيامي "عائشة وأكيزا" للمملكة    إغلاق مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية مرتفعة    انخفاض أسعار النفط في أكبر خسارة أسبوعية في ثلاثة أشهر    الجنيه الإسترليني يرتفع مقابل الدولار الأمريكي وينخفض مقابل اليورو الأوروبي    بيان «الصحة» عكس الشفافية الكبيرة التي تتمتع بها الأجهزة الحكومية في المملكة    "الترفيه" تنظم عروض "سماكداون" و "ملك وملكة الحلبة" في جدة الشهر الجاري    محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    «الأونروا»: الصراع في غزة مستمر ك"حرب على النساء"    بأمر الملك.. إلغاء لقب «معالي» عن «الخونة» و«الفاسدين»    اليوم المُنتظر    «النصر والهلال» النهائي الفاخر..    جريمة مروّعة بصعيد مصر.. والسبب «الشبو»    أمانة الطائف تنفذ 136 مبادرة اجتماعية بمشاركة 4951 متطوعًا ومتطوعة    عقد المؤتمر الصحفي لبطولة "سماش السعودية 2024" في جدة    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يوجه بسرعة العمل على فتح الطرقات وتقديم المساعدة    إدانة المنشأة الغذائية عن حادثة التسمم الغذائي وإغلاق فروعها بالرياض والخرج    ميتروفيتش: لم نحسم لقب الدوري حتى الآن    "درع الوقاية 4".. مناورات سعودية – أمريكية بالظهران    توسيع نطاق الاستثناء الخاص بالتصرف العقاري    تركي الفيصل يرعى حفل جائزة عبد الله بن إدريس الثقافية    غداً.. منع دخول المقيمين لمكة دون تصريح    «الدفاع المدني» محذراً: التزموا البقاء في أماكن آمنة وابتعدوا عن تجمُّعات السيول    الشرطة تفرق اعتصاما مؤيدا للفلسطينيين في معهد الدراسات السياسية بباريس    «البيئة»: 30 يومًا على انتهاء مهلة ترقيم الإبل.. العقوبات والغرامات تنتظر غير الملتزمين    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    وزير الطاقة: 14 مليار دولار حجم الاستثمارات بين السعودية وأوزبكستان    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    كيفية «حلب» الحبيب !    قصة القضاء والقدر    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غياب الاستجابة وليس غياب الريادة
نشر في الرياض يوم 07 - 03 - 2010

يتحدثون كثيراً بحسرة ومرارة في المجتمعات المتخلفة عن غياب الإبداع وعن قلة المبدعين ويعزون التخلف إلى هذا الغياب المتوهَّم لكن من يتأمل تاريخ الحضارة ويهتم بمعرفة أسباب التحولات الظافرة يجد أن الشطر المهم في العملية الحضارية هو استجابة المجتمعات لروادها ومبدعيها فلا أثر للإبداع ولا تفع فيه إلا بمقدار ما تستجيب له المجتمعات وتتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً كافياً فعملية التقدم الحضاري لا تنهض أبداً بجناح واحد وإنما تنهض بجناحين هما: جناح الريادة في الفكر والفعل ، وجناح الاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية وهذا الجناح الأخير هو الأهم وهو الذي يتكرر غيابه في الماضي والحاضر وتعاني المجتمعات المتخلفة من هذا الغياب أما الرواد والمبدعون فإنهم لا يمكن أن يغيبوا في أي مجتمع غياباً كاملاً خصوصاً في هذا العصر المفتوح على كل الانجازات الإنسانية لأن من يملك بصيصاً من استقلال التفكير وقدرة التحليل سوف يطلع على الأفكار العالمية فيستنير عقله وتمتد رؤيته خارج الأطواق السائدة كما أن الريادة لا تحتاج كثرة في العدد بل المهم تقديم أفكار خلاقة حتى ولو من فرد واحد فما من مجتمع إلا ويظهر فيه مفكرون رواد ومبدعون لكن في المجتمعات ذات الثقافات المغلقة يكابد الرواد والمبدعون مرارات الرفض والإقصاء والتهميش والاستنكار وربما ما هو أشد وأقسى وأمرّ ومن هنا يستمر التخلف رغم تتابع ظهور الرواد والمبدعين..
إن الريادة تظهر في أي مكان حيث لا يتوقعها أحد فهي نتاج ذاتها أي أنها ليست نتاج المحيط الذي ولدت ونشأت فيه وإنما الرائد يملك قدرة التجاوز والامتداد في الآفاق العالمية فالريادة تأتي دائماً مخالفة للسائد ومتجاوزة له ومتقدمة عليه وغير راضية عنه وذات اهتمامات مختلفة عما هو سائد فيه وهي لا يمكن أن يُنتجها التعليم النظامي لأنها مغايرة له فهي غير نمطية وهذه المغايرة هي التي تجعل الريادة مرفوضة في البيئات المغلقة ومحاَبة من المؤسسات المسيطرة ومن عامة الناس وبسبب ذلك لا يستفاد من الرواد والمبدعين فيدوم التخلف فليس تقدم العلوم وطفرات الأفكار وتحولات الحضارة وتجدد الإبداع وارتقاء الأوضاع في كل المجالات سوى سلاسل من الشواهد المتنوعة التي تؤكد أن الإبداع في الفكر والعلم والاختراع والفن والسياسة والإدارة والأداء لا يكون إلا خارج الأعراف السائدة ومنفكاً من الأطواق المدرسية والاجتماعية والثقافية أما البقاء في دائرة السائد فلا يضيف جديدا بل بالعكس يكون محكوماً بالتآكل والتناقص وفق قانون الإنتروبيا وينبغي عدم توقُّع الإبداع ممن يظهرون تفوقاً في التعليم النظامي مهما حملوا من ألقاب إلا إذا ظهرت فيهم سمات التفرد فإذا أبدع بعض من كانوا متفوقين دراسياً فإن رياداتهم الإبداعية ليست مدينة للأجواء المدرسية أو البيئية الثقافية بل بالعكس إنما هم بإبداعاتهم يكونون قد اكتشفوا فظاعة التدجين الثقافي وتجاوزوا التلقين المدرسي وتعرت أمامهم نقائص ما عايشوه وما درسوه فلم يقتنعوا فيه ولم يقنعوا به فتجاوزوه وربما ظهرَ لهم بأن ما تربوا عليه وما درسوه يدفعهم في الاتجاه الخاطئ فيرفضونه ويحاولون إظهار أخطائه وكشف نقائصه وبذلك ينتقلون من مستوى الانقياد التلقائي البليد إلى مستوى الريادة الفردية الفاحصة والمصححة فإذا استُجيب لهم تحسنت الحياة وارتقت الأوضاع وتقدمت الحضارة.
إن الريادة لابد أن تكون مباينة للتلقائية العامة السائدة وهي شرط إيقاظها ودفعها إلى الصعود فتحريك التلقائية ونقدها وكشف المعوقات فيها وتقديم تصورات بديلة عما هو سائد هي شروط الارتقاء فلا يمكن أن يتحسن أي واقع اجتماعي إلا بالتكامل بين الريادة الخلاقة والاستجابة العامة، إن هذه الحقيقة ثابتة تاريخياً كما أنها بدهية منطقياً وعملياً فالواقع القائم لا يمكن أن يغير ذاته تلقائياً فهو محكوم بقانون القصور الذاتي القاطع فلا يحصل التغيير إلا بظهور رواد بارعين يملكون رؤى إيجابية مغايرة للسائد ومتقدمة عليه ولكن لا جدوى من ظهور الرواد ولا من رؤاهم المضيئة إلا بمقدار استجابة المجتمع للريادة وقبوله للأفكار الرائدة أما عامة المتعلمين فإنهم يرسخون الواقع فهم ذائبون فيه ومندفعون في نفس اتجاهه ولا يملكون رؤى مغايرة له حتى لو حملوا ألقاباً أكاديمية رنانة أو امتلأت رؤوسهم بمسائل علمية معزولة عن السياق العام وحفظوا الكثير من المعادلات والقوانين التخصصية في العلوم الحديثة المختلفة إنهم بذلك يملكون بعض معلومات وبعض مهارات وبعض شكليات تسهم في توطيد الواقع المتخلف وليس في تطويره لأن المجترّ الذي يبقى في نطاق الترديد لا يمكن أن يكون رائداً أو مبدعاً أو متحفزاً للجديد المغاير ولا حافزاً غيره إليه بل إنه في الأصل الغالب يتبرمج بكُره الريادة والخوف من الإبداع فيصير مناهضاً للرواد ومناكفاً للمبدعين مهما حمل من ألقاب أو حصل عليه من شهادات ومهما ساح وتجول في العالم.
إن هذا الاختلاف النوعي بين رؤية الريادة الإيجابية الخلاقة ورؤية الثقافة الاجترارية السائدة لابد أن يؤدي في الثقافات المغلقة التي تعيش أوهام الكمال والاكتفاء إلى سوء الفهم وما ينتج عنه من الإقصاء والرفض والمقاومة وعدم الاستجابة وفوات فرصة الاستفادة من الأفكار الخلاقة ويترتب على ذلك استمرار تدهور الأوضاع ودوام التخلف لعدم التكامل بين الريادة والاستجابة فصوت الريادة في الثقافات المغلقة المكتفية هو صوت مدان ومقموع ومستبعد فليس له أي تأثير إيجابي وإنما بالعكس تنتج عنه ردود أفعال متشنجة تؤدي إلى المزيد من تشييد الحصون المانعة وإقامة المتاريس وتعبئة العقول ضد الاستنارة وحشد العواطف لمحاربة الرواد وعدم الاستماع لهم كما كان يفعل المشركون لمواجهة القرآن: «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه» وكما فعل فرعون الذي ألّب الناس على موسى عليه السلام وحذرهم منه وزعم أنه «يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره» ويتكرر الموقف مع كل الأنبياء وجميع المصلحين وكافة المفكرين الرواد وبسبب ذلك يستمر سوء الأوضاع ويتفاقم التدهور رغم توفر إمكانات الازدهار.
إن الريادة لا تؤتي أي ثمار أو نتائج إيجابية إلا بمقدار ما يستجاب لها فهي كالنداء في الفضاء الفارغ ما لم يتفاعل المجتمع معها تفاعلاً إيجابياً كافياً فليس للريادة الفكرية أو العملية أي أثر إيجابي يتجسد في حياة المجتمع ويلمس الناس نتائجه ما لم تتحقق لها الاستجابة الكافية ؛ فاستمرار تخلف الكثير من المجتمعات لا يعود إلىعدم وجود رواد ومفكرين ومبدعين لأن الرواد يظهرون في كل المجتمعات ومع ندرتهم فإنه لا يوجد مجتمعات محرومة حرماناً كاملاً منهم فاستمرار التخلف سببه الحقيقي غياب الاستجابة للريادة وليس الافتقار إلى الرواد فما من مجتمع يخلو منهم خلوَّا تاماً لكنهم يكونون دائماً سابقين لمجتمعاتهم ومنفردين برؤاهم ومتقدمين على المجتمعات في طريقة تفكيرهم وفي اتجاه جهدهم وفي أنواع اهتماماتهم ويحلّقون خارج السرب .. إنهم يتقدمون المجتمع ويخلصون له لكنهم يختلفون عنه في الرؤية ويتخاصمون معه لمصلحته فلا يندمجون فيه ولا يستسلمون له ولا يقبلون جموده ورتابته واستمرار دوراته مع ذات المسارات العقيمة فهم حداة التقدم ورواد الازدهار وحاملو أعلام التغيير نحو الأفضل لكن أمراض المجتمعات هي أمراض ثقافية تجعل المأخوذين بها يعزون التخلف لغير أسبابه ، ويحاربون بضراوة من يحاول تحليل الواقع وتشخيص أمراضه وإبراز معوقات النمو الحقيقية فمن أصعب الأمور أن تعترف الثقافات بأمراضها أو تقر بقصورها ، ومن المحال أن يكتشف عامة أهلها حقيقة القيود المأسورين بها بل كلما تعددت أمراضها وتفاقم قصورها وتنوعت قيودها واشتدت حاجاتها إلى التغذية من خارجها اشتد انتفاشها وتعاظمت ادعاءاتها بالكمال والاكتفاء ، واستحكم انغلاقها فبقدر استحكام موانع النهوض يشتد الرفض وتلتهب المقاومة فالمجتمع المتخلف ثقافياً يرفض بشراسة أن يعترف بأمراض ثقافته لأنه مغتبط بها ويعتبرها مصدر فخره وعنوان مجده ودلالة امتيازه ومن هنا تتكاثف أسباب الرفض لأي فكر خلاق وبسبب ذلك يستمر التخلف رغم كل الإمكانات التي فجرتها أفكار العصر ومناهجه وعلومه وتقنياته ومهاراته وأساليبه ونظمه ووسائل العمل فيه.
إن مباينة الريادات الإيجابية للثقافات السائدة هي السمة المميزة للإبداع والريادة فالريادة لا تُحسب للمجتمع إلا بمقدار استجابته لها فإذا استجاب إيجابياً حُسبت له أما إذا استجاب سلباً ورفضاً كما حصل مع ابن رشد وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم من رواد الفكر والعلم فإن الريادة تحسب ضده وتعد برهاناً على افتقاره إلى قابلية النمو وعجزه عن التجدّد وبهذا يتأكد أنه يعيش ثقافة مغلقة عقيمة غير قادرة على التقدم ومملوءة بموانع النهوض ولكن هذه الحقيقة الأساسية ما زالت في المجتمعات العربية غائبة تماماً عن وعينا بشكل بلبلَ الأفهام وأزهق الآمال وأربك الباحثين وأضاع الجهود وبدد الوقت واستنزف الطاقة وأبقانا متخلفين وعاجزين عن مبارحة المسارات العقيمة وجعلنا غير قادرين على الاهتداء إلى نقطة البداية التي تقود إلى الازدهار فغياب هذه الحقيقة الأساسية قد أدى إلى إغفال أشد الحقائق أهمية وأقواها تأثيراً فارتقاء الأفراد وازدهار المجتمعات منبعهما الريادة الإبداعية والاستجابة الاجتماعية أما من غير هذا التكامل العضوي فإن المجتمع المتخلف لابد أن يبقى يدور في مسارات التخلف.
إن الرواد المؤسسين هم الذين أبدعوا العلوم والفنون وابتكروا المناهج والوسائل وأنتجوا الأفكار والأساليب وطوروا المهارات والأدوات وفتحوا آفاق التقدم والازدهار فهم قادة الفكر والفعل ولكن لا تأثير للريادة ولا نفع فيها إلا بمقدار الاستجابة لها والسير خلفها إن المبدعين والرواد هم الذين يأتون بالإضافات الخلاقة أما عامة الدارسين في مختلف المستويات ومن كافة التخصصات فليسوا سوى مستخدمين لما أنجزه الرواد المبدعون فالناس لم يأتوا إلى الأرض ليجدوا العلوم والفنون والمناهج والأساليب والنظم وأنواع المهارات والمخترعات والإبداعات جاهزة وإنما شيدها الرواد الخارقون وأنجزها المبدعون لأنهم اخترقوا الحواجز الثقافية فتجاوزوا المألوف وخرجوا من كهوف المعتاد واكتشفوا المجهول وعرفوا طبيعة الدوافع والموانع ووصلوا إلى ما لم يصل إليه غيرهم ، وعرفوا ما لم يعرفه سواهم وابتكروا من الأساليب الناجعة والرؤى الرائدة ما لم يكن معروفاً قبلهم ثم جاء الدارسون ومعلموهم ليغْتذوا بما هو جاهز ويستخدموا ما هو منجَز ويرددوا ما أبدعه الرواد فالقدرة الإبداعية لا يمكن تلقينها بالمدارس والجامعات ولو كانت كذلك لأمكن بسهولة أن تمتلئ الأرض بالمبدعين .. إن القدرة الإبداعية تنبع من داخل الذات ولا تحقن من خارجها فالإنسان كائن تلقائي فلا تستجيب قابلياته إلا برغبته واستمتاعه فالإبداع لا يمكن أن يخطط له على هذا النحو السهل الساذج وإنما هو ثمرة من ثمار العقل الفاحص والعاطفة المتأججة والاهتمام التلقائي القوي المستغرق ، إنه نتاج التفرد في التفكير والتمرد على التدجين ونقض برمجة الطفولة ، والقدرة على استعادة الذات وإعادة بنائها وتعبئتها برؤية مغايرة وتفكير مختلف.
إن الإبداع لا ينبع إلا من توتُّر داخلي شديد ، إنه يفيض تلقائياً وهو يتكون بالتلاحم الوثيق بين يقظة العقل وتأجج الوجدان فهو فيضان من الداخل وليس حقناً من الخارج ، إنه يتطلب قابلية ذاتية من داخل النفس كما يتطلب تلهفاً صادقاً وانفتاحاً واسعاً على كل المؤثرات من خارج الذات إنه نتاج الشعور بالحاجة والإحساس بالمتعة إنه ثمرة التعبئة الذاتية الواعية المدفوعة برغبة ملحة ولهفة متأججة..
إن التعبئة الإبداعية لا تأتي بالأمر والنهي وإنما هي نتاج الاهتمام التلقائي المتأجج والحساسية الشديدة للمؤثرات ، إن المبدع مدفوع تلقائياً إلى البحث عن الفهم في كل الآفاق وعدم الاكتفاء بالإجابات الجاهزة ووضع كل إجابة وكل رأي وكل اتجاه وكل مسلّمة وكل بداهة تحت كواشف المراجعة والفحص والتحليل والمقارنة والتحقق .. إن الرائد العلمي يكون مسكوناً بحب الحقيقة فينقب عنها في كل الزوايا ويتعرف عليها بكل الطرق وعند كل الاتجاهات ، ويحاول أن يعثر عليها وأن يستخرجها من بين ركام الأوهام والادعاءات والتناقضات ، إن هذا لا يمكن أن يحصل إلا برغبة ذاتية قوية تلقائية من داخل الذات وليس اضطراراً من أجل الحصول على شهادة أو نحوها، إن الإقبال على التنقيب والبحث والاستقصاء عند الرائد العلمي يأتي اندفاعاً وليس اضطراراً فالمندفع ذاتياً يملك قدرة استثنائية على النفاذ والاستيعاب والفهم ويستطيع التركيز القوي والمثابرة المستمرة باستمتاع ودون ملل أو كلل بل يعيش بالبحث أعظم المباهج وأعلى المتع إنه يملك إخلاصاً صادقاً للحقيقة ، ورغبة متوقدة للمعرفة فتتشابك في داخله كل الطاقات الكامنة وتتضافر كل القابليات المخبوءة ويتحول هذا الهمّ إلى اهتمام قوي مستغرق وإلى جهد منظم وهذا لا يكون إلا من نصيب أفراد معدودين فالشهادات مهما علَت ليست دلالة على وجود القدرة الإبداعية ولا على الرغبة في الحقيقة ولا على اكتساب الروح العلمية بل العكس هي في الغالب دلالة على قابلية غياب التفكير المستقل واستحسان التقليد البليد والانقياد الأعمى والإمَّعية المستحكمة.
إن غياب هذه الحقيقة الأساسية عن الأذهان في المجتمعات المتخلفة قد أسهم إسهاماً رئيسياً في استمرار العقم ودوام الكلال وكما يقول العالم المفكر عبدالله العلايلي: «فإن الخاضع لتأثير ما ترفض نفسه كل تأثير من نوع آخر إلا إذا كان للتأثير الجديد تيار شديد جارف» فعلى مستوى المجتمعات فإن أقدمية ثقافة التخلف ورسوخها ومتانة كيانها واستمرار إغلاق منافذها وحراسة أبوابها وتبرمج الأجيال بها وقيام قوات متحفزة وشرسة وقوية لحراسة الحصون الثقافية وعدّ الأنفاس ومراقبة النشاط بل إن الحصون الثقافية تتضاعف كلما امتد الزمن أما الأصعب من كل ذلك فهو احتماء ثقافة التخلف بالولاء العاطفي الكلي التلقائي لها من المنتمين إليها والمبرمجين بها إن كل هذا يصونها ويحميها من أي مؤثر ما لم يكن مؤثراً قوياًجارفاً أما على مستوى الأفراد فإنهم لا يتقبلون أفكاراً تتعارض مع ما تبرمجوا به في طفولتهم حتى لو تلقوا هذه الأفكار خارج أوطانهم في أرقى جامعات العالم كما تؤكد ذلك شواهد لا حصر لها من الذين ذهبوا في بعثات دراسية من مختلف بلدان العالم الثالث وحصلوا على شهادات أكاديمية عليا ولكنهم عادوا أشد انغلاقاً مما كانوا قبل ذهابهم!!!
إن شواهد لا حصر لها تؤكد أن التعليم الرتيب لا يغير طريقة التفكير ولا يعيد ترتيب محتوى الأذهان إلا بزلزلة المسلّمات المعوّقة لتنفتح بها أبواب العقول المغلقة أما القدرة على حفظ المقررات المدرسية العلمية ومواصلة النجاح فيها والتفوق في الانصياع والترديد فليست دلالة على حصول أي تطور ذهني وليست سبيلاً إلى توطين العلم ولا إلى حسن الأداء بل هي تؤكد استمرار الذوبان في الثقافة السائدة.
إن واقع المجتمعات وتاريخ العلم يقدمان الدليل إثر الدليل على العنصر الأساسي الأكثر أهمية في المعرفة العلمية وهو تغيّر طريقة التفكير وتبدل منظومة القيم وانبعاث الشوق المتلهف إلى المعرفة الممحصة وليس حفظ المسائل والمعلومات والمعادلات والقوانين العلمية فالانتقال من طريقة تفكير تبرمَج بها العقل منذ طفولته وتغذى بها طول حياته لا يمكن أن يتحقق بحفظ معلومات مهما كانت دقيقة لأن العلم انتقال نوعي في طريقة التفكير ومقومات التحقق ومجالات الاهتمام ومعايير التقييم إنه انفتاح على كل الروافد واستعداد للتعرف على كل المسارات ، إنه مبارحة واقع ذهني راسخ ومستحكم وغير علمي جرى التبرمُج به تلقائياً وتشرَّبته الذات تشرباً كاملاً بشكل عفوي فانعجنت به والخروج منه إلى واقع ذهني علمي مغاير كلياً وطارئ يتناقض في الغالب مع الكثير مما امتلأت به العقول وتطبعت به النفوس .. إنه انتقال نوعي يبدّل وظيفة العقل من السلبية إلى الإيجابية ومن الانفعال السلبي إلى الفاعلية الإيجابية ولكن هذا الانتقال النوعي لا يحصل تلقائياً بالتعليم الرتيب وإنما يتطلب استنارة استثنائية وجهوداً عظيمة ومثابرة صادقة ورغبة جياشة، واهتماماً تلقائياً قوياً مستغرقاً وهذا الدور لا يمكن أن ينهض به التعليم النظامي الرتيب مهما تنوعت موضوعاته العلمية ومهما ارتقت مستوياته إلا إذا كان مسبوقاً ومصحوباً بنهضة فكرية عامة وقوية ومفتوحة ومتعددة الاتجاهات تنير الأذهان وتفتح الأقفال أما المعلومات مهما بلغت دقة وتنوعاً فإنها غير قادرة على تحقيق هذه النقلة النوعية في طريقة التفكير وفي اتجاهات الجهد وفي مسارات الاهتمام فلابد من نهضة فكرية تهيئ المجتمع للتفاعل مع الأفكار والمعارف وإلا فإنها تتحول لخدمة التخلف وتكريسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.