لقد أشرقت في الوطن ابتسامته، وعاد إلى الإدارة فارسها، وتاقت المسؤوليات إلى رجل يتحمل المشاق في سبيل وطن وشعب أحبه. بلد تلهف لعناق سلطان، وشعب ظمأ لابتسامته، ومسؤوليات تاقت لسياسته، ومحتاج استبشر بمقدمه، وقلوب تعلقت سعادتها بعطاء سمو في الخير وللخير، تحتفل اليوم بمقدمه سالماً معافى. نفوس طالما أسعدها سلطان في حضوره، أخلصت في غيابه الدعاء آناء الليل وأطراف النهار أن يعود إليها وتاج الصحة يكلل هامته، وهي اليوم تفرش له الأفئدة، وتروي ثرى وطأه سلطان بدموع الشكر والامتنان لله بعودته الميمونة. رجل خاض غمار التنمية لأكثر من 60 عاماً وهو يبني ويشيد ويؤسس وينفذ حتى أصبحت مدرسة سلطان في الإدارة والتنمية جامعة تخرج أجيالاً لخدمة المملكة العربية السعودية في شتى المجالات. شفي سلطان فجرت في جسد الخير دماء الحياة، ويكفيه فخراً أن أعماله في خدمة الإنسانية والعلم والعلماء لا تغيب عنها الشمس. سلطان بن عبدالعزيز كفه اليمنى خير والأخرى إحسان فتقبل الله منه وأجزل له العطاء: المجد عوفي يا (سلطان) والكرم وزال عنك إلى أعدائك الألم وما أخصك في أمر بتهنئة إذا سلمت فكل الناس قد سلموا كانت المرة الأولى التي أتشرف فيها بالسلام على سموه وأنا على مقاعد الدراسة الجامعية في مكتبه بوزارة الدفاع والطيران ضمن خلق يتوافدون على سموه للسلام وقضاء الحاجات، فإذا ذلك القائد الذي تقربك منه ابتسامته حتى تظنه يعرفك منذ زمن طويل؛ تحول بينك وبينه هيبة ووقار العظماء فتجد نفسك تتراجع خجلاً من مهابته، وجلاً من قوة شخصيته، ولكن سرعان ما يدنيك منه بلسمة حانية أو كلمة تهدئ من روعك. وتمر السنون منذ ذلك التاريخ لتسعدني الأيام مرة أخرى بأن ألقي بين يدي سموه كلمة أهالي منطقة عسير بمناسبة مرور مائة عام على استعادة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ملك أجداده، ويستقبلني سموه مصافحاً باشاً في تواضع أشعرني بعظمة سلطان، وعلمني تواضع الحكام. ثم تأتي المصادقة الثالثة عندما خرج سموه على البرتوكول وتجاهل أية مخاطر أمنية في سبيل أن يجيب دعوة إلى وليمة عرس في منطقة عسير؛ لم يخطر ببالي مطلقاً وأنا في ذلك المكان المتواضع أن يدخل علينا سمو ولي العهد وأن يشاركنا الفرح، وأن يمضي حوالي الساعة في سعادة أضفت على المناسبة ألق سلطان، ووسمتها بكريم تواضعه. سألت بعدها أحد المسؤولين عن الأمن في المنطقة عن تلك الليلة فأكد أنها كانت من أكثر اللحظات حرجاً في حياته المهنية أن يجد ولي العهد يتوقف ويحضر ذلك الزواج دون أية ترتيبات أمنية، لكن سلطان كان يدرك أنه محاط بشعب يعشقه ويفديه بأرواحه. أما المصادفة الرابعة فقد استمعت إليه يتحدث في شؤون الإعلام والمجتمع بدون قيود، فكانت رؤى شفافة تنداح سياسات عامة تربك أي مخطط استراتيجي، ولكنها غير مستغربة من رجل رضع السياسة في المهد فأصبح جامعة قائمة بذاتها، يكرر وصيته دوماً: لا تتخذ قرارك وأنت منفعل، وإنما اتخذ القرار بروية وحزم. تلك الليلة صافحت سموه وقلت له بالحرف الواحد إنني أشعر بالطمأنينة على مستقبل أبنائي في بلد أنتم قيادته وهذه رؤاكم وتطلعاتكم لمستقبله. منذ ذلك الحين عدت للوراء أتفحص بعض مقابلات وكلمات سموه أيده الله، فوجدت لاهتمامه بالتعليم والعلماء والبرامج والكراسي والمراكز العلمية سنداً في مسيرته منذ تبوأ أول وزارة في حياته العملية. ففي 1/5/1373ه - 7/1/1954م سألته صحيفة المنهل عن أهم مشروعات وزارة الزراعة وهو أول وزير لها فأجاب بالنص: «قد يكون الكلام عن هذه المشروعات سابقاً لأوانه، لأنني ولما يمض علي في وزارة الزراعة سوى فترة قصيرة - وما زلت أعكف على دراسة التقارير والأبحاث الفنية التي قامت بها مديرية الزراعة في سنواتها الماضية في مختلف شؤون الزراعة والري، فهذه الدراسات والأبحاث هي الأساس الذي سنبني عليه مشروعاتنا للمستقبل»، في وقت لم يكن لدينا دراسات ولا استراتيجيات كان سلطان يدرس ويبحث لأنه يريد عملاً مؤسساتياً وليس تنفيذاً ارتجالياً. وعندما قيل لسموه في ذات الحوار: «ما أوسع الأراضي في المملكة وما أقل المزروع منها!.. ولذلك ظللنا في عداد الأمم المستوردة مما أرهقنا وعرّض البلاد لكثير من المتاعب في ناحية الغذاء والكساء خاصة عندما تنشب حرب عالمية، أفلا ترون إذن، السعي لإنشاء شركات وطنية زراعية تتولى زراعة وتخصيب الأراضي بصورة حديثة، وعمل دعاية واسعة لذلك، ومساهمة وزارتكم بقسط كبير في هذا السبيل؟»، فكان جوابه قبل حوالي 60 عاماً هو: «لا شك أن إنشاء شركات زراعية وطنية في بلادنا، من الخدمات الجليلة الجديرة باهتمام الكثير من مواطنينا، إلا أنها يجب أن تقوم على أساس من المعرفة والدراية والتجرية.. ووزارة الزراعة لا تتردد إطلاقاً في وضع خبرتها وتجاربها في خدمة أولئك الذين يرغبون في القيام بمشروعات من هذا النوع، لأنهم بذلك إنما يدعمون مركز بلادهم الاقتصادي ويساهمون في توفير الغذاء والكساء لأبناء وطنهم». ويسبق الأمير سلطان الجميع إلى أهمية التخصص الذي يؤمن بأهميته في حياة البشر والدول فيؤكد في تلك المقابلة على أننا «في حاجة شديدة إلى التكثير من أبناء الوطن المختصين بالشؤون الزراعية، وهم وحدهم الذين يستطيعون خدمة بلادهم في هذه الناحية بكل أمانة وإخلاص، وسيكون هذا الموضوع من أهم ما نعنى به إن شاء الله، لتوفير العدد اللازم من الفنيين لأعمال هذه الوزارة ومشروعاتها من أبناء الوطن». ومن هنا ومن هذه القناعة والإيمان العميق بأهمية الزراعة في حياة الشعوب ظهرت بواكير المشاريع الزراعية الحديثة. كمشروع الوحدات الزراعية، وإقامة السدود في الوديان، واهتم الأمير الوزير بتأمين القروض الميسرة للمزارعين، واستقدام الآليات المطورة بغية نقلهم إلى الأساليب الحديثة، فكانت البدايات الأولى لنهضة زراعية عاشتها المملكة رقم قسوة البيئة. وقد تجسد كل ذلك في قوله «إن الناس لا ينشطون للعمل المجدي إلا إذا اشبعوا، ولا يمكن أن يشبعوا وتستنير عقولهم وتتهيأ أذهانهم لكل أمر نافع ومفيد لبلادهم وأمتهم إلا بالزراعة التي هي أساس تنظيم التغذية وتأمين الوسائل الكافية لقوام الأجساد وقوتها ونمائها ونشاطها». ولم يكتف الأمير سلطان بذلك فحسب بل اتجه نحو التعامل مع القضايا السكانية بعقلانية أيضاً، فعمل على توطين أهل البادية والمساهمة في استقرارهم، بغية دمجهم في المجتمع. وكان يستطيع تأجيل توطينهم حتى مرحلة لاحقة يكون التوطين حينها أيسر بيد أن هاجساً يسكنه بضرورة أن تعم العدالة على الجميع، فسلك الطريق الأصعب.. وساعدهم على إقامة مزارع حديثة، وأوصى العاملين معه بهم خيراً. فطن الأمير آنذاك إلى توجّس الإنسان البسيط من التغيير، فاتجهت نيته فيما يخص خطط وزارته إلى صنع تطور تدريجي يأخذ بيد الناس خطوة خطوة نحو التنمية المنشودة، متحاشياً إدخال عناصر مفاجئة على حياتهم في أي من قراراته في وزارة الزراعة. ولم تتوقف عجلة التنمية الزراعية بعد خروجه من الوزارة، فقد عاد طلاب البعثات ورفدوا مملكتهم بتحصيلهم وخبرتهم، وبدأت حركة إحياء الأراضي الزراعية، وانتقل المزارعون من أساليبهم التقليدية إلى الآليات الحديثة مما ضاعف الإنتاج.. ولم يهجر البدو مزارعهم بل طوروها زراعياً وحيوانياً، وأمست المملكة تطرق باب التنمية الزراعية بحداثة وثقة. لقد أسست رؤى الأمير سلطان ونظراته الثاقبة لصناعة زراعية تعد من مفاخر بلادنا ويكفيني شعور من الاعتزاز ينتابني عندما أطلب قدحاً من القهوة في مدينة دبي وأجد أن الحليب المستخدم من صناعة سعودية تحرص معظم المقاهي والمطاعم العالمية في هذه المدينة على اعتباره تميزاً لها عندما تضيفه إلى أطعمتها ومشروباتها. تلك كانت رؤية سلطان الواضحة في وقت كان الغبش سيد الموقف بسبب الظروف العالمية المضطربة وقلة الخبراء وانعدام الوسائل المعينة على الرؤية بعيدة المدى. إن ما أسسه الأمير الوزير في الزراعة، انسحب على وزارة المواصلات إذ لم يتوقف عند حاجة البلاد حينذاك وإنما كانت عينه ترقب المستقبل لتتمتع بلادنا بشبكة كفوءة من الطرق البرية والجوية والبحرية والسلكية واللاسلكية. وعندما جاء لوزارة الدفاع والطيران أسس مفهوم الدفاع السلمي، وحول الجيش من مستهلك لميزانيات الدولة كما هو في معظم دول العالم إلى عامل محرك للتنمية، ولذلك بنيت حول القواعد والمدن العسكرية مدن اقتصادية وصناعية وتطورت الحركة التجارية والتعليمية ونشطت المجتمعات في شتى المجالات لتكون مدننا العسكرية وما يحيط بها مدناً عصرية متطورة. عاد سلطان الخير والإنسانية إلى ملك أحبه، وشعب أجله، ووطن يعترف كل شبر فيه بخير سلطان ودوره في تنميته. فحمداً لله على سلامتك يا أبا خالد. * الملحق الثقافي السعودي في الإمارات