بين رمضان اليوم، ورمضان الأمس اختلاف شاسع واسع كبير. رمضان اليوم نوم بالنهار، وأكل وسهر، وعبث بالليل. صار - عند البعض - موسماً للهو، والعبثية، موسماً للمسلسلات الهابطة، والدعايات الهابطة، والأحاديث السمجة والسخيفة.. لا شيء يملأ العقل، لا شيء يملأ الروح.. أما رمضان الأمس فكان شيئاً مختلفاً، كان شيئاً مهيباً، وقوراً، كنت تشعر بعبقه الروحي يلف كل شيء، كانت وجوه الناس راضية، وأحاديثهم راضية، وقلوبهم براقة نظيفة. كانوا يتعاطون المحبة والألفة، والعبادة بشكل تلقائي.. كان الصوم حالة من حالات غسل الروح، والبدن من سموم الغضب، والشغب، والكراهية.. كان رمضان محطة يلتقي الناس تحت ظلها بعد رحلة طويلة في مسيرة عامهم الطويل.. لن أنسى كيف كان الناس يزينون بيوتهم ومساجدهم بالقراءة والطيب.. لا أنسى تلك الوجوه الطافحة بالطمأنينة والتسامح. وذلك البريق الذي يشع من العيون، فيبعث الرضا والسكينة والحب.. حب الناس، وحب الحياة. لا أنسى كيف كانت أيدي الخير تمتد في غلسات الليل، لتساعد المحتاجين والضعفاء، وذوي الخصاصة، والمرضى، والمساكين، والذين لا يسألون الناس إلحافا.. كان الناس في رمضان أشد ما يكونون تكافلاً، وتكاملاً، ورحمة.. كان رمضان فرصة عظيمة، للالتقاء، والامتزاج. كنا نجتمع كباراً وصغارا كل ليلة في بيت أحد أفراد البلدة للإفطار والعشاء. حيث يمضي الشهر كله ونحن في - دورية - كل يوم ضيوف عند شخص، كان الناس يتسابقون في الكرم والإكرام. يتسابقون في الحب والتسامح.. كان رمضان ميقاتاً لكي تحج القلوب إلى بعضها.. كانوا يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن رمضان فوق العداوات، وفوق الشحناء، والبغضاء. فتتصافح القلوب.. وتتسامح الأنفس، وتشتد الروابط، وتحل الرحمة، والسكينة.. وكانت روح رمضان رقيقة وشفافة، لم يكن بها غلو ولا تزمت. لم تكن حياة الناس خشنة جافة كما يتصور البعض. بل على العكس كان الناس إلى جانب عبادتهم يميلون أحياناً إلى الدعابة، والفكاهة.. أذكر أن أحد شيوخ البادية، وكان مزاحاً قال للإمام وقت صلاة الظهر وكان الجو حاراً قال: «يا شيخ ليش ما تطلبون من ابن سعود يفهق رمضان إلى الشتاء» فضج الناس بالضحك ثم عادوا إلى الاستغفار والقراءة، هكذا كنا نعيش رمضان في بلدتنا أو مجتمعنا الصغير على الأقل.. كما كان رمضان فرصة عظيمة للقراءة.. قرأت معظم كتب التاريخ، والسير، والتراجم في رمضان.. كنا نتبادل الكتب فيما بيننا، وكنا نستعير الكتب من مكتبة المدرسة، أو مكتبة مركز التنمية. تلك الكتب التي لا تتوفر لدينا أو لا نستطيع شراءها.. أما رمضان اليوم فقد اختلف، ولا شك أنه سيختلف باختلاف الزمان وظروفه، ومعطياته، ومتغيراته المذهلة، وتغيرات المجتمع، وتحولاته السريعة في كل شيء.. غير أنه ليس من اللائق ولا من جلال هذا الشهر، أن يصبح عند البعض مجرد كبت لشهوة الجوع، وتعطيل لقدرة الحركة في النهار، وانفجار هائل في الليل يأتي على كل شيء..! فهناك كثير من الناس، يتعاطون السكون والخمول والكسل في النهار، والانفلات الأرعن الصاخب إذا داهم الظلام.. وهذا ليس من تقدير ولا تقديس هذا الشهر الكريم وحرمته وفلسفته في شيء.. فإذا كان رمضان هو موسم عبادة وزهد في المأكل والمشرب وزهد - ولو مؤقتا - في متاع الدنيا وصخبها، وقلقها، وسعارها.. فلا بد أن يكون ذلك حالة ثابتة طيلة هذا الشهر الكريم، فعلى الشاب العابث المستهتر، أن يكف عن عبثه واستهتاره، وأن يعيد مراجعة نفسه، وسلوكه، وطريقة تعامله مع الحياة والناس.. عليه أن يدخل حالة تأمل، ومكاشفة مع النفس، عليه أن يجرّب القطيعة مع الشغب، والصخب، والاستهتار بالحياة، والاستهتار والإسراف في إضاعة الزمن..! عليه أن يعيد طريقة التعامل مع كل الأشياء من حوله. حتى مع اللغة، مع التعابير التي يطلقها في لحظات جموحه، واندفاعه، وإسرافه في النزق، والطيش... وعلى صاحب العمل، وصاحب الجاه، والتاجر، والراكض بعنف وراء جمع المال، على كل واحد من هؤلاء أن يقوم بعملية جرد وحساب، حساب لأيامه، وساعاته ودقائقه، عليه أن يقف أمام إشارة المرور في طريقه المنطلق اللاهث السريع، عليه أن يقف مع نفسه بصراحة وشجاعة ويسألها: إلى أين أنا ذاهب؟ وإلى متى، وما جدوى أن أنفق زمني، وصحتي، وسعادتي، في معركة العمل، أو معركة جمع المال، بل ومعركتي مع قلبي الخائف الوجل المذعور..؟. ماذا لو استعبدت المال بدلاً من أن يستعبدني، ماذا لو أنفقته قبل أن ينفقني، ماذا لو جربت لذة البذل والعطاء بدلاً من سعار الأخذ، والجمع والكنز..؟! وكذا نقول عن الذين يسرفون في إضاعة هذا الشهر، في التفاهات والرقاعات، والمجانة، ماذا لو جربوا فضيلة ولذة القراءة. فاستمتعتوا بروائع ما أبدعته البشرية في مجال الأدب، والفن، والثقافة وكثير من ألوان المعرفة.. ماذا لو تأملوا في ملكوت الله، وآياته العظيمة، في كتابه العظيم.. ماذا لو نفذوا وأنصتوا إلى قلب الحياة الخافق، وتنفس الحياة، وإيقاعها الأدلي، الذي يعبره الكثيرون فلا يصغون إليه، يعيشون، ويموتون، بلا صوت، ولا جدوى ليذروا أعمارهم لرياح النسيان، كالهشيم تذروه الرياح في كل فج عميق.. فيا أيها الأحبة رمضان فرصة من فرص العمر العظيمة، فلا تفوتنكم.. فمن يدري، ومن يجزم بأنها ستعود مرة أخرى..؟!!
