خيار صعب ما تطرحه مراكز البحث السياسي، ويتلخص بعنوان هل المحافظة على هيكل الدولة أياً كان نظامها منفتحاً أو مغلقاً، متسلطاً أو منفرجاً، دعامة للوحدة الوطنية في مناطق الاضطراب، وأقرب مثال في هذا الاهتزاز العراق والصومال في المنطقة العربية، وأفغانستان، والآن جورجيا خارجها؟.. من الصعب القطع بالملاءمة بين واقع مرّ، وأمرّ منه، ومع ذلك فقبضة الدولة إذا كانت الضمانة لوحدة الوطن، فهي الأهم إذ بالرغم من جبروت صدام وتعديه على الحريات والتصفيات الجسدية حتى لأقربائه، هناك من يصنَّفون على عدائه المطلق من داخل وخارج العراقيين من تمنوا بقاءه لما يشهده العراق الآن، ولعل سهولة تعديل الدولة وتغيير مساراتها يبقيان الأمل الأكبر وخاصة في بلدان لا تملك المناعة الذاتية بأن لا تنفجر على نفسها بخلق صراعات توقد النيران في كل مكان وتجعل الفوضى والتفتت معيارين للإخلال بتوازن الوحدة. فلبنان مثلاً، يعد من البلدان العربية المتقدمة ثقافياً وتعليمياً، وقد جرب حالات الانقسام، وتشكيل ما يشبه (الكانتونات) لكل طائفة، لكن الجميع وصل إلى قناعة أن الاعتماد على حماية قوة خارجية، أو سطوة المليشيات، أو الاعتقاد بأن مسار الزمن سوف يتغير لأحد الفصائل، أثبت خطأه، وبالتالي جاء اتفاق الطائف منقذاً، وإن لم يجعل الأمور حتى الآن تسير بالاتجاه الضامن لسلامة البلد وأمنه.. هناك تجارب نجحت بحكومات دكتاتورية، لكنها إصلاحية بإداراتها ومناهجها مثلما جرى في تنانين آسيا، وهناك الصين التي لا تزال قبضة دكتاتورية الحزب قائمة، لكنها برأس شيوعي، وجسد رأسمالي، وقد نجحت الديمقراطية في الهند ذات الأعراق والأديان المختلفة، وفشلت في دول العالم الثالث إلا ما ندر منها، ومن هنا يأتي موضوع سيادة الدولة كضرورة إذا ماكانت المجتمعات ليس لديها قابليات التماسك، أو أن ينتهي التغيير عادياً ومرناً أسوة بالدول المتقدمة.. مثلاً هناك الديمقراطيات العريقة، لا تهتم بالأشخاص بقدر ما تهتم بسيادة القانون الذي يعتبر القيد على الدولة ضمن مبادئ لا تتغير بزوال أو عودة رؤساء جدد، ولم يأت هذا إلا من خلال نضج طويل أحدثته تجارب والتزامات أخلاقية ووعي بشروط الحقوق والواجبات، ولذلك انعدمت أرقام ال"99%" في الانتخابات، أو تغيير الدساتير وتفصيلها على زعيم الأمة، وفصيلته التي تؤويه.. صحيح أن بعض الحكومات قادت بلدانها إلى كوارث وتعديات، وهناك حكومات كانت تتصرف بما يعتبر لائقاً لكن الانقلابات أبعدتها وعادت بما هو أسوأ منها، وفي كل الأحوال فنضج الشعوب مسألة في غاية التعقيد، إذ ليس فقط النجاح يأتي من التعليم إذا افترضنا أن جذور الطائفة والإقليم والمنطقة والقبيلة متجذرة وتأتي على أولويات الوطن، لأن النجاح يأتي من الممارسة، فيمكن لعامل بسيط يؤمن بنظام العمل ويتقيد بمفاهيم النقابة، أن يكون أجدر من حامل دكتوراه لا يزال يعيش عقلية رئيس القطيع بسلوكه حتى لو كان باختصاص نادر. الوطن وحده هو الحاضن للأجناس، والعرقيات والقوميات، وإذا ما بيع بثمن بخسٍ تحت أي ذريعة، فقَد الإنسان هويته، وأصالته، وبالتالي إذا كانت الحكومات ضمانة هذا الوجود فهي أهون الشرّين والبلاءين..