القاعدة الإدارية تنص على أنه لا سبيل لأن يبذل العاملون في أي مؤسسة ذوب نفوسهم إلا إذا شعروا برضا يملأ جوانحهم، يقوي في أنفسهم وشائج الشعور بالانتماء، وذلك من خلال تشجيعهم، ورفع روحهم المعنوية، ومعالجة ما قد يقع من أحدهم من أخطاء بالحسنى والإقناع. وإني لأتذكر - في مقام الحديث عن القيادة الناجحة - سؤالاً وجيهاً طالعته في إحدى نشرات الإدارة المتخصصة يقول: كيف نطلب من الآخرين عمل الأفضل، إذا كنا نشعرهم أنهم الأسوأ!! وهي قاعدة عريضة في التطبيق، عميقة في الأثر، مؤكدة في الثمار. إن غرس الثقة في الآخرين، وإشعارهم بأهمية مكانهم ومكانتهم، وما ينتظر منهم من طيب الأعمال يدفع بروح التسابق والإتقان، والرغبة الذاتية في إحسان الأعمال والإبداع فيها، وصولاً للقمة في الأداء. ونحن في أشد الحاجة إلى هذه "الروح" التي تتجاوز المطلوب التقليدي، الذي تنص عليه اللوائح وقوانين العمل، وهي مع كثرتها وتفاصيلها لا تشفي كل احتياجاتنا في زمن التحدي العصيب. إنني أدعو إلى "إطلاق الروح في عالم الإدارة"! فالروح هي العامل الأعظم أثراً من كل ماديات الإدارة على أهميتها، تلك الماديات التي تتجسد في الأنظمة واللوائح وأساليب العمل. إن الروح الكامنة في الجالس على كرسي القيادة هي الأشد أثراً في إدارة الجهاز أياً كان ذلك الجهاز. وأنتقل إلى الحديث عن المملكة: إن الموضوع الذي أرى أن يكون الأهم في سلم أولويات قادة المؤسسات العامة عندنا هو: "النظرة الفاحصة إلى العالم من حولنا، لإدراك توجهاته، ومستجداته، وأثرها على واقع المملكة ومستقبلها". ومعنى هذا - باختصار شديد -: محاولة الوصول إلى كنه ما حولنا، من خلال قراءة فاحصة للزمان والمكان. فلكي أعرف نفسي لابد لي من معرفة العالم حولي، فإذا حددنا العالم من حولنا، بكل توجهاته ومستجداته كان يسيراً علينا أن نحدد مواقعنا في الزمان والمكان. إن الاهتمام بشؤون العالم والمبادئ التي تشكله، هو اهتمام مباشر بشؤون وطننا والمبادئ التي نعمل في ضوئها، ونسعى لتحقيقها. إن "القرية العالمية" التي نعيش فيها قد تقاربت، بل تلاصقت دورها، وطرقاتها، وناسها، وأسواقها، وبورصاتها، وعملاتها المالية، وكما تؤثر فينا فهي قابلة - متى صممنا - على أن نؤثر فيها، ونسهم في تشكيلها، وذلك ليس معجزاً لنا.. متى ما وجدت الإرادة الصادقة، والعزم الأكيد، إذ عندنا ما يؤهلنا لتحقيق هذا التأثير. أما واقعنا الاجتماعي والاقتصادي ومؤشراته المستقبلية، فينبغي علينا الإحاطة به، وقراءة أساسياته، إذ من خلالها يمكن التعرف على المسارات المستقبلية. فنتحسب لذلك، حتى لا تفاجئنا التطورات في صميم مخطط تصورناه، وبذلنا له العقول، بينما تبتعد عن سيطرة أيدينا مرتكزاته الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا يتجلى من قراءة الحاضر أنه ليس هو وحده المهم، بل إن المستقبل أهم منه، ولعل من نافلة القول: إن هذه القراءات في العالم والوطن ليست قراءة جامدة "استاتيكية" بل هي قراءات مرنة متطورة "ديناميكية" بتطور أحداث العالم التي قلما تثبت على حال. ولا أظن أن متحدثاً يخوض اليوم في شؤون الحاضر والمستقبل إلا وللتقنية ووسائل الاتصال الحديثة في بحثه ودراسته نصيب وافر، وها هي ذي حمى أخبار التقنيات المتقدمة تشتعل في وسائل الإعلام اليومية، بسرعة تعجز المتخصص عن متابعتها. ونتساءل: يا ترى إلى أي مدى يستطيع من تخرج في جامعاتنا عام 1400ه وما قبل ذلك التاريخ أن يدير موقعه الآن؟ مكتفياً بالمعلومات القديمة نفسها، بينما تغشى المؤسسات الحديثة طرق توصيل المعلومة لصانع القرار وتحديثها ونبذ الخاطيء منها، مع إلغاء الوسائط الروتينية المعقدة في دقائق معدودة؟ هذا بينما تختفي ملايين الكتب من المكتبات، ويحل محلها أقراص مدمجة قد يضم الواحد منها عشرة آلاف صفحة، ولا يزيد وزنه عن بضع جرامات؟. هذا بالإضافة للمعلومات المصورة والمسموعة والمقروءة؟ الزمن يسير بسرعة الضوء، فإما أن نمتطيه، وإما أن تقتلع من جذورنا. زمن يمضي كالرياح الشديدة. فإما أن نركبها أو نقتلع! ولابد من إجابات تعجل بوضع السبل التي تؤهلنا لمعالجة المنقول من التقنيات واستنباتها؛ تحجيماً للفجوة التكنولوجية التي تتسع كل يوم.. بل كل ساعة. وللحديث بقية تتعلق بالأجيال الحاضرة، وكيف أنها تختلف عن جيل آبائها، إدراكاً، وفكراً، وعلماً. وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.