ويخالف الإسلام الرأي القائل بأن مسألة الفقر ليس لها مقياس ثابت بمعنى أن عدم وجود الكماليات والرفاهية في مجتمع أمريكي أو أوروبي مثلاً يعتبر فقراً، أما الفقر في مصر أو العراق فهو يعني عدم وجود الاحتياجات الأساسية. ويرى الإسلام أن هذا الرأي ينظر للمسألة بمعايير نسبية وليست واقعية في حين أن المشرع لا يمكن أن يسن قانوناً يختلف من شخص إلى آخر ولكنه جاء من أجل البشرية جميعها. والفقر في الشريعة الإسلامية يعني النقص في الاحتياجات الأساسية والتي حددها الشرع في ثلاث نقاط وهي (الأكل والملبس والمعيشة الجيدة). قال ابن الأحنف في الفقر: يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها وتراه مبغوضاً وليس بمذنب ويرى العداوة لا يرى أسبابها حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة خضعت لديه وحركت أذنابها وإذا رأت يوماً فقير عابرا نبحت عليه وكشرت أنيابها ويكفي أن الفقر يضع الإنسان في قلة وذلة ويجعله يشعر بالظلم وهو المعنى الذي قصده عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله الشهير: (والله لو كان الفقر رجلاً لقتلته)، ويقول شاعر آخر: إن الدراهم في الأماكن كلها تكسو الرجال مهابة وجمالاً فهي اللسان لمن أراد فصاحة وهي السلاح لمن أراد قتالا قال أحد الحكماء: الفقر رأس كل بلاء وقال لقمان لابنه: (يا بني أكلت الحنظل وذقت الصبر فلم أر شيئاً أمر من الفقر فإذا افتقرت فلا تحدث به الناس كي لا ينتقصونك ولكن اسأل الله تعالى من فضله فمن ذا الذي سأل الله ولم يعطه من فضله أو دعاه فلم يجب). ويقول تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما انكم تنطقون) "الذاريات: 22-23). ويلاحظ أن (الوصايا) المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) ومنها وصاياه للإمام علي (عليه السلام) تظل - في واقعها - مجموعة أحاديث من نحو: (يا علي: إنه لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل.. إلخ، يا علي: آفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان.. إلخ، يا علي: ثلاث من أبواب البر: سخاء النفس وطيب الكلام والصبر على الأذى.. إلخ). وهكذا تمضي الوصية بنشر أحاديث مستقلة من جانب ولكنها متجانسة من جانب آخر، حتى انه (صلى الله عليه وآله) اخضع هذه الأحاديث لهيكل فني من حيث الخطوط التي تجمع بين الأحاديث، فهو (صلى الله عليه وآله) عندما يستهل كل مجموعة أو مقطع بمخاطبة الإمام علي (عليه السلام): يردفها بأحاديث متجانسة، وهذا من نحو المقطع التالي: (يا علي: آفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة العبادة الفترة، وآفة السماحة: المن..) فالجمع بينها هو مصطلح (آفة) حيث وصله بالكذب والنسيان والفترة والمن من حيث صلتها بالحديث والعلم والعبادة والسماحة.. ومن نحو (يا علي: ثلاث من أبواب البر: سخاء النفس، وطيب الكلام، والصبر على الأذى. ومن نحو (يا علي: ثلاث يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك، والإصلاح بين الناس) فالمكيدة في الحرب، وعدة الزوجة، والإصلاح بين الناس: تجسد سلوكاً مشتركاً يستخدم فيه (الكذب) الذي يفضي إلى عمل الخير، فاستخدام الحيلة حيال العدو يعد انتصاراً للخير لأنه الانتصار على العدو - وهو الشر - انتصار للخير وكذلك الإصلاح بين الناس، فعندما تكذب على أحد المتخاصمين وتقول له: إن خصمك قد مدحك، حينئذ تكون بهذا الكذب قد مسحت ما في أعماق هذا الرجل من حقد وثورة على غريمه.. وكذلك عندما تعد زوجتك بشراء حاجة وأنت على معرفة كاملة بأن هذه الحاجة لا ضرورة لها أو أنها تؤثر على دخلك: حينئذ تكون قد مارست عملية اقتصاد تعصمك من الافلاس والمتاعب: بخاصة أن المرأة - غالباً - تصدر عن سلوك عاطفي لا تفكر من خلاله بدخل الرجل وإمكاناته أو لا تفكر من خلاله بنتائج اقتناء الحاجة غير الضرورية، اما الاستتباع ذلك فساداً أو ترفاً يتنافى مع ضرورة تدريب الإنسان على تناول ما هو ضروري - فحسب، ومهما يكن فإن ما نستهدفه من هذا العرض للأحاديث هو: أنها تخضع فنياً إلى تخطيط فكر تتلاحم من خلاله موضوعات هذه الأحاديث وتخضع لخيط فكري يوحد بينها، بالنحو الذي لحظناه. بينما تتجه السياسة الأمريكية في اهتماماتها وجهدها لجانب تكريس نفسها كقوة عظمى في العالم، في حين يعلن مكتب الإحصاء الأمريكي في تقرير له في شهر أغسطس الماضي عام 2007بأن عدد الأمريكيين الذين يعيشون في حالة فقر في أمريكا بلغ نهاية العام 2006الرقم (36.5) مليون نسمة، وذلك بواقع يزيد ب (5) ملايين نسمة عن الرقم المسجل للعام 2000.كما وبلغ عدد الأمريكيين الذين لا يتمتعون بحق الرعاية الصحية وفق نفس المصدر (47) مليون نسمة، بزيادة مليوني نسمة عن السنة الماضية، و(8.5) مليون نسمة عن العام 2000.وبحسب التقرير فإن معدلات الفقر في أمريكا للعام 2006كانت بنسبة 12.3% مقابل 12.6% للعام 2005، بينما كانت معدلات الفقر في العام 2000تساوي 11.3% وبلغ عدد الفقراء حينه (31.6) مليون أمريكي. ويرى التقرير أن الولاياتالمتحدة أخفقت في تحقيق أي تقدم ملموس في هذا الإطار، بل على العكس، فمعدلات الفقر اليوم اسوأ مما كانت عليه قبل ست سنوات مع زيادة (4.9) مليون فقير في العام 2006عن الرقم المحقق العام 2000.ووفقاً لأرقام العام 2006، فقد بقيت شريحة الأطفال الشريحة الأكثر فقراً من بين الفئات العمرية الأخرى، إذ لم يحصل أي تغيير رقمي مهم فيما يتعلق بمعدلات الفقر لدى الأطفال، 17.4% في العام 2006مقابل 17.6% في العام 2005.وبلغت معدلات الفقر بالنسبة للأطفال تحت سن السادسة 20%، بينما بلغت الأرقام المتعلقة بمعدلات الفقر لدى الفئة العمرية من (18-64) عاماً، 10.8% في العام 2006مقارنة ب 11.1% للعام 2005.وسجلت الفئة العمرية من (65) عاماً وما فوق الرقم 9.4% للعام 2006مقارنة 10.1% للعام 2005.هذه تقارير مكتب الإحصاء الأمريكي بكل دقة متناهية ولم يتحرجون من أرقام الفقر لديهم والتي طالت فئة الأطفال وهي الفئة التي تستحق الأمان لبناء دولة وشعب أقوياء ومع ذلك نشرت التقارير لتصحيح أخطائهم وحل مشكلاتهم، ولكن المهم نحن أين إحصائياتنا لحل مشكلاتنا؟ إذن المسؤولية تقع على وزارة الشؤون الاجتماعية نريد منها أرقاما دقيقة تعتمد على الوضع الراهن للفقر في المملكة العربية السعودية ونحن على ثقة أنها ستعمل ذلك في القريب، حينها سنقدر حجم وأهمية المشكلة وسيسعى الجميع لرفع أدوات العلاج لحلها. في نهاية الطرح أتمنى أن تنتهي مأساة الفقر في بلاد العالم العربي والإسلامي وترتفع مقومات الحياة الكريمة وتعود الحياة بلا عناء وأن نستبشر بقدوم مولود جديد بأن يصبح عوناً للحياة لا عبئاً عليها.