في بداية بحوث الإعلام والاتصال ساد تصور نظري يرى الجمهور بوصفه كتلة سلبية تتلقى الرسائل الإعلامية دون قدرة على المقاومة أو التفسير المستقل. وهو التصور الذي تجسد بوضوح في ما يسمى الآن بنظرية (الرصاصة السحرية) أو (الحقنة تحت الجلد)، حيث افترضت هذه النظرية أن وسائل الإعلام تمتلك قوة مباشرة وشاملة في التأثير على الأفراد، وأن الرسالة تنتقل من الوسيلة إلى المتلقي بصورة خطية وتحدث أثراً متشابهاً لدى الجميع. غير أن هذا الفهم بدأ يتعرض لنقد تدريجي مع التطور في الدراسات الإعلامية، فظهرت دراسات كشفت أن الجمهور ليس متلقياً سلبياً، بل فاعلاً نشطاً يختار الوسائل والمضامين وفق حاجاته ودوافعه الاجتماعية والنفسية. وقد تبلور هذا التحول بشكل واضح في نظرية تسمى (الاستخدامات والإشباعات) والتي أكدت أن المتلقي يستخدم الإعلام لتحقيق أغراض محددة، ويفسر الرسائل وفق سياقه الثقافي وخبرته السابقة ليشبع رغبات محددة، مثل البحث عن المعلومات أو الترفيه أو الترابط الاجتماعي، وغيرها. بهذا، تحول مفهوم الجمهور من (السلبية) إلى (النشاط)، وأعاد صياغة العلاقة بين الوسيلة والمتلقي بوصفها علاقة اختيار وتفسير لا مجرد تأثير مباشر. ومع دخولنا إلى العالم الرقمي، ومع انتشار الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، حدثت نقلة كبيرة في مفهوم (الجمهور النشط). فنشاط الجمهور الآن لم يعد مقتصراً على التلقي والتفسير، بل امتد إلى الفعل والمشاركة والإنتاج. والمستخدم حالياً أصبح قادراً على النشر الفوري، والتعليق، والتصحيح، وتقديم مواد إخبارية كاملة من موقع الحدث. هذا التحول فرض على دراسات الإعلام إعادة تعريف الجمهور، ليس بوصفه متلقياً نشطاً فقط، بل بوصفه فاعلاً إعلامياً يمتلك أدوات تقنية ومعرفية تؤهله للتدخل في مسار نقل الأخبار والتعليق عليها والترويج لها. ولم يعد الجمهور في بيئة الاتصال الرقمي ذلك المتلقي الصامت الذي يكتفي بالاستهلاك أو التأويل الشخصي المحدود. فالتحولات الكبرى التي أحدثتها المنصات الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي أعادت تعريف العلاقة بين وسائل الإعلام وجمهورها، ودفعت إلى ظهور ما يعرف بمفهوم (الجمهور النشط) أو (القارئ النشط) بمعناه التفاعلي. هذا المفهوم يشير إلى جمهور فاعل يشارك في إنتاج المحتوى وتداوله وتفسيره، ولا يكتفي باستقباله فقط. تتجلى فاعلية الجمهور النشط بوضوح في إنتاج المحتوى الإخباري نفسه. فكثير من الأخبار العاجلة في العالم الرقمي تبدأ من صور أو مقاطع فيديو يلتقطها مواطنون عاديون بهواتفهم، خصوصاً في أوقات الأزمات والكوارث والأحداث المفاجئة. المستخدم هنا لا يكتفي بدور المشاهد، بل يتحول إلى مصدر أولي للمعلومة، وأحياناً إلى عنصر ضغط على المؤسسات الإعلامية لتبني زاوية معينة أو تجاهل أخرى. هذا التحول لم يكن محصوراً في نشاط الجمهور فقط، بل فرض نفسه على المؤسسات الإعلامية، التي وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة التفكير في علاقتها بالجمهور. فالكثير من الصحف ووسائل الإعلام العالمية فتحت المجال لمشاركة الجمهور بشكل مباشر في صناعة الأخبار. فهناك صحف كبرى اعتمدت بشكل واسع على محتوى القراء، سواء عبر التعليقات والتحليل، أو من خلال استقبال الصور والفيديوهات من الجمهور في تغطيات الأزمات والأحداث المحلية التي قد لا يصل إليها المراسل الصحفي بسهولة. مع ذلك، لا يعني صعود الجمهور النشط اختفاء دور الصحفي أو المؤسسة الإعلامية. بل على العكس، ازدادت أهمية أدوار التحقق والتحرير والتفسير. الفارق أن هذه الأدوار تمارس اليوم في حوار دائم مع الجمهور، لا من موقع الوصاية المعرفية أو السلطة الاحتكارية، بل من واقع علاقة تفاعلية وتفاوضية، وأحياناً صراعية، لكنها في كل الأحوال لم تعد أحادية الاتجاه.