في أحضان قصور الطين التاريخية التي شهدت ميلاد الدولة السعودية الأولى، انطلق ملتقى الدرعية الدولي 2025 كنجمة تضيء سماء الصحراء. عقدت الندوة في 11 و12 ديسمبر الجاري تحت شعار "استدامة الحضارات: الواحات واستمرارية التراث"، مجمعةً خبراء وباحثين وصانعي سياسات لاستكشاف كيف احتضنت الواحات الخضراء في قلب الجزيرة العربية الإبداع البشري عبر العصور. ركز الحدث على وادي حنيفة، الشريان الطبيعي الذي يمتد 120 كيلومترًا عبر الدرعية والرياض، ليس كمعلم تاريخي فحسب، بل كنموذج علمي للاستدامة البيئية في المستقبل. الواحات ليست مجرد واحات خضراء وسط الرمال؛ إنها أنظمة بيئية معقدة تدعم الصمود البشري. من واحات الأحساء الخصبة إلى ينابيع الدرعية المحاطة بأشجار النخيل، ساهمت هذه النظم في تسهيل التجارة، وتعزيز الزراعة، وتشكيل الثقافات التي أنجبت إمبراطوريات. نظمت الملتقى، هيئة تطوير بوابة الدرعية، وربطت بين التراث البيئي والمعماري والثقافي، موضحة دور وادي حنيفة في بناء المستوطنات، وابتكار أنظمة الري القديمة مثل الأفلاج، وسرد القصص الشفهي الذي يربط الأجيال. كما قال الأمير سعود بن طلال بن بدر، محافظ الأحساء والرئيس التنفيذي لهيئة تطوير الأحساء في كلمته الافتتاحية: "الطبيعة شكلت هويتنا، من ضفاف وادي حنيفة إلى الواحات التي تعكس صمودنا". استمر الملتقى يومين من المحاضرات والحوارات والورش، تغطي الجوانب المتعددة للواحات: كمصادر طاقة تعزز التنوع البيولوجي، وكأراضٍ مدعومة بأنظمة ري تقليدية، وكمنصات ثقافية تحافظ على الشعر والتراث الشعبي والروابط الاجتماعية. بلغ الذروة في الجلسة الافتتاحية "طبيعة مزدهرة: فرص مزدهرة – دور الأودية والواحات في التنمية المستدامة للدرعية"، على مسرح سلوى التاريخي. ركزت الجلسة الافتتاحية على كيفية دعم هذه الشرايين الطبيعية لأهداف المملكة الخضراء، محولةً التراث إلى محرك للابتكار. كعضو مهتم التوعية والنقاش الخاص في التنمية المستدامة بمحاورها الثلاثة، تتمثل الركائز الثلاث للتنمية المستدامة في النمو الاقتصادي، والاندماج الاجتماعي، وحماية البيئة. وتضمن هذه الركائز مجتمعةً تقدماً متوازناً يلبي الاحتياجات الحالية دون المساس بمصالح الأجيال القادمة. ساهمتُ بتأملاتي حول توازن الإنجازات مع تحديات التقدم. وادي حنيفة: نموذج علمي للانسجام بين الإنسان والطبيعة وادي حنيفة ليس مجرى مائيًا عاديًا؛ إنه نظام بيئي حيوي يمتد جنوب شرقًا من هضبة نجد نحو الربع الخالي. جاف معظم الوقت، إلا في الفيضانات النادرة، كان يحمل مياه الأمطار لري النخيل والسنط والمزارع المدرجة. تكشف التنقيبات الأثرية عن مستوطنات تعود لآلاف السنين، حيث زرعت قبيلة بني حنيفة الأرض وتجارت بالعنبر قبل الإسلام بقرون. في القرن الثامن عشر، أصبح الوادي مهد الدرعية، نواة الدولة السعودية. هنا، ربط الإمام محمد بن سعود التحالفات تحت ظلال النخيل، حيث رمزت المياه إلى الرزق والسيادة. أنظمة الأفلاج – قنوات جوفية تنقل المياه الجوفية بكفاءة ريّت وسقت بساتين واسعة، مدعومةً سكانًا يصل عددهم إلى عشرات الآلاف. بيئيًا، كان الوادي مركزًا للتنوع: موطنًا للنمور العربية، الوبر، وأكثر من 200 نوع طيور، مع مناخات محلية تخفف جفاف الجزيرة. لكن التوسع الحضري في السبعينيات أضر بهذا التوازن، محولاً الوادي إلى مكب نفايات وصرف صحي، مما أدى إلى تآكل التربة وفقدان النباتات. يعكس هذا التحدي العالمي للتنمية في المناطق الجافة: التوتر بين النمو السريع والهشاشة البيئية. زاد استنزاف المياه الجوفية بمعدلات تصل إلى مترين سنويًا، مع تفاقم التملح والتصحر بسبب وفرة النفط. أطلقت الهيئة الملكية لمدينة الرياض برنامج تطوير وادي حنيفة للتنمية الشامل عام 2001، بتكلفة 200 مليون دولار، بالتعاون مع شركات هندسية كندية. أعاد البرنامج ترميم 85 كيلومترًا، زرع 500 ألف شجرة، أعاد تأهيل الأراضي الرطبة، وبنى سدودًا لتنقية الفيضانات. حاز على جائزة آغا خان للعمارة عام 2010. اليوم، تمشى الممرات الخشبية بين بساتين النخيل، وتقدم المراكز التعليمية دروسًا في إدارة المياه المستدامة، محولةً الوادي إلى نموذج حضري بيئي. في الجلسة الافتتاحية للملتقى، وصفتُ الوادي ب"طائر الفينيقي"، قائلًا: "من بؤر التنوع البيولوجي حيث يجد الغزال العربي ملاذًا إلى الأفلاج التي تلهم الري بالتنقيط، يُظهر الوادي قدرتنا على دمج الطبيعة مع الطموح. والحكايات الشفهية عن الينابيع والفيضانات تربط ماضينا بمستقبلنا". شكلت كلماتي إطار النقاش حول الواحات ك"محركات حيوية" للاستدامة. في جلسة "الأمن الغذائي والمائي كأساس للازدهار"، ناقشنا كيف تضمن الأودية أمنًا في المناطق القاحلة. سلطتُ الضوء على مشاريع الدرعية: أجهزة استشعار تراقب المياه الجوفية، وزراعة حراجية تجمع السدر مع محاصيل مقاومة للجفاف، تزيد الإنتاجية 30% وتعزل الكربون. قلتُ: "هذه ليست آثارًا قديمة، بل خارطة للمرونة في عالم ترتفع فيه درجات الحرارة". أظهر الإجماع نجاحًا ملموسًا: ارتفاع أعداد الطيور 40% بعد الترميم. لكن المتشككين يحذرون من ضعف الأفلاج أمام الجفاف، مقترحين تنويع المصادر مثل مياه الصرف المعالجة. يقدم إطار الإدارة التكيفية، مدعومًا بالذكاء الاصطناعي، حلولًا تنبؤية تحول التحديات إلى فرص. رؤية السعودية الخضراء: طموح يواجه عقبات علمية تتوافق الندوة مع رؤية السعودية 2030، حيث بلغ التمويل الأخضر 12 مليار دولار في 2025، محتلًا ثلثي السوق الإقليمي. أكد وزير الاستثمار المهندس خالد الفالح استثمار تريليون دولار في البنية الخضراء لصافي انبعاثات صفر بحلول 2060، مدعومًا ب500 مليار دولار من القطاع الخاص. في الطاقة المتجددة، شراكة مع البحرين ب2.8 جيجاوات شمسية تقلل الاعتماد على الأحفوريات 15%، وتشغل محطات التحلية. يدير صندوق الاستثمارات العامة (أصول تريليون دولار) مليارات نحو الهيدروجين الأخضر (4 ملايين طن بحلول 2030) ومشروع سدير (1.5 جيجاوات). المبادرة الخضراء السعودية تستهدف خفض 278 مليون طن كربون سنويًا بحلول 2030 عبر تشجير 10 مليارات شجرة واحتجاز 44 مليون طن بحلول 2035. مراكز الابتكار مثل "التعافي" تدعم 1700 شركة ناشئة، من محاصيل مقاومة للملوحة إلى أنظمة مياه ذكية. برنامج "التنقل الذكي" يبني محطات شحن في "سبارك" (تكلفة 6 مليارات دولار)، موفرًا 100 ألف وظيفة. السياحة، المستهدفة 15% من الناتج المحلي، تبني 10 آلاف منشأة خضراء في واحات تراثية. ومع ذلك، يواجه التحول تحديات: الاعتماد على المحروقات (40% من الناتج) يسبب جمودًا تنظيميًا، وندرة المياه (انخفاض نصيب الفرد 80% منذ السبعينيات) تعيق التشجير. تحلية المياه تلوث السواحل، والجزر الحرارية تزيد الهشاشة الاجتماعية. يحذر النقاد من فجوات اجتماعية إذا تأخر الانتقال الوظيفي. يرد القادة باستراتيجيات تكيفية: برنامج الزراعة المستدامة (3.2 مليارات دولار) يحقق 85% نجاحًا بري تنقيطي، ومبادرة الشرق الأوسط الخضراء تبادل المعرفة. أدى التظليل إلى انخفاض درجات الحرارة 20% في الرياض. تجسد الدرعية هذا: مخطط مدينة الأرض (63 مليار دولار، 14 كم2 خضراء) يزرع 6.5 ملايين شجرة، خافضًا الحرارة 5 درجات. مساكن تقليدية بتبريد طبيعي وذكاء اصطناعي للتنوع. قلتُ مازحًا: "نبني مع الوادي، لا عليه". التحديات مثل الغبار تُدار بمشاورات مجتمعية. قوة ناعمة عالمية: التراث يلتقي بالابتكار تعزز هذه الجهود مكانة السعودية كحارس للكوكب، رابطةً الحكمة القديمة بالتقنيات الحديثة في قمم كوب وG20. الذكاء الاصطناعي يتنبأ بالفيضانات ويدار الكربون، مما يبني تحالفات عالمية. تعزز العدالة: تعاونيات نسائية تصون الأفلاج، ومشاريع أفريقية لاستصلاح الصحراء. ينتقد المراقبون الاعتماد على الأحفوريات، لكن الإنجازات ملموسة: حماية 30% من المياه الإقليمية، مشيدًا بها الأممالمتحدة. في الختام، ادعو منكم الانضمام إلينا في التحول الأخضر؛ نبني إرثًا يروي ظمأ الغد". أتقدم بخالص الشكر لهيئة تطوير بوابة الدرعية ومؤسسة الملك سلمان غير الربحية على هذه الجلسة. مع نهاية 2025، تذكرنا الدرعية: الطبيعة المزدهرة تولد فرصًا مزدهرة، مشكلةً حضارات متوازنة. *أستاذ زائر، جامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولاياتالمتحدة | مستشار، الجامعة الأميركية في بيروت، بيروت، لبنان | مؤلف: تحوّل المملكة العربية السعودية: عدم اليقين والاستدامة الدكتور - تركي فيصل الرشيد *