في زمن أصبحت فيه المنصات الرقمية ساحة مفتوحة للنجومية، تحوّل الأطفال إلى نجوم محتوى يحققون ملايين المشاهدات، بينما يقف كثير من الآباء خلف الكاميرا بحثًا عن الربح والشهرة، وبينما تُظهر الصور ومقاطع الفيديو عالمًا ورديًا جاذبًا للمتابعين، يختفي خلف الأضواء تحديات نفسية وسلوكية قد تترك آثارًا طويلة الأمد في نمو الطفل وهويته. الأخصائية النفسية د. عبير العبيد ترى أن استخدام الأطفال في المحتوى الرقمي يحمل خطورة كبيرة إذا تجاوز حدود التوثيق العفوي للحظات حياتهم. تقول: «حين يصبح الطفل مشروعًا تجاريًا على منصات التواصل، تتحول براءته إلى أداة تسويقية تُستغل لتحقيق مكاسب مادية أو جماهيرية، وهنا يبدأ الخطر». وتوضح العبيد أن الأطفال بطبيعتهم يتعلمون من التفاعل الاجتماعي المباشر، لكن عندما يتلقى الطفل إعجابات وتعليقات بشكل يومي، يبدأ في ربط قيمته الذاتية برأي الجمهور وعدد المتابعين. «هذا النوع من التعزيز الخارجي يجعل الطفل هشًّا انفعاليًا ويؤثر على تكوين ثقته بنفسه لاحقًا». وتشير إلى أن تعرض الأطفال للكاميرا بشكل مستمر يخلق شخصية «مُمَسرحة» تعيش لتُرضي الآخرين، وقد يفشل الطفل لاحقًا في التمييز بين شخصيته الحقيقية وصورته الافتراضية. كما أن النقد والسخرية والتنمّر الإلكتروني يصدمان نفسية الطفل قبل أن يمتلك أدوات المواجهة. من ناحية أخرى، تؤكد العبيد أن بيئة الشهرة الافتراضية لا تخلو من مخاطر أمنية، فمشاركة تفاصيل حياة الطفل اليومية من المدرسة إلى المنزل وملابسه وهويته الصحية، تفتح باب الاستغلال والتحرش والاستهداف من قبل المنحرفين، ما يجعل الطفل عرضة لأخطار لا يدركها. وتنتقد الأخصائية غياب التشريعات الصارمة التي تضمن حقوق الطفل الرقمية، مؤكدة ضرورة مراقبة المحتوى الذي يظهر فيه الأطفال والتأكد من عدم تحميلهم أدوارًا أكبر من سنهم. وتضيف «هناك محتوى يفرض على الطفل تمثيل مشاهد، بكاء، أو مواقف محرجة تُعرض خصوصيته وتضعف توازنه العاطفي» وتدعو العبيد الآباء إلى الوعي بأن الميزان النفسي للطفل أهم من المكاسب اللحظية: يجب أن نمنح أطفالنا طفولة طبيعية، نسمح لهم باللعب، بالخطأ، بالنمو بعيدًا عن هوس الشهرة. وإذا تم الظهور الرقمي، فليكن محدودًا، مبنيًا على احترام حقوق الطفل وحمايته. من جانبها، تكشف المستشارة القانونية المتخصصة في قضايا الجرائم المعلوماتية أ. نورة السبيل أن الأنظمة السعودية بدأت تعزز حماية الأطفال رقميًا ضمن إطار حقوق الطفل. وتوضح قائلة: "هناك مسؤولية قانونية مباشرة على ولي الأمر عند استغلال ابنه تجاريًا عبر المنصات دون ضوابط؛ وقد يُعتبر ذلك انتهاكًا لحقوق الطفل وخصوصيته. وتشير السبيل إلى أن نشر محتوى غير لائق أو يمس كرامة الطفل يعد مخالفة صريحة لنظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، ويُحاسَب عليها الأب أو الأم بوصفهما المسؤولين عن النشر. وتتابع: «بعض الآباء ينسون أن الطفل لا يملك قرار الموافقة، ولا يستطيع إدراك العواقب التي قد تمتد لسنوات. وتؤكد أن المملكة تعمل على بناء سياسات وتشريعات أشمل لتنظيم ظهور الأطفال في الإعلانات والمحتوى الرقمي، بما في ذلك ضوابط تتعلق بالأرباح المتحققة لحفظ حق الطفل المالي مستقبلًا، وحمايته من أي استغلال صريح أو ضمني. وفي ظل هذا السباق نحو الشهرة، يبقى الوعي الأسري السلاح الأقوى. د. العبيد تختصر رسالتها: «دعوا الأطفال يكبرون بعيدًا عن فلاش الكاميرات، شاركوهم لحظاتهم إنسانيًا، لا تجاريًا».