هو من الذين تشرفوا بالعمل مع المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وقد حظّى بمكانة عالية عنده، وقد عينه في مناصب قيادية بوزارة الخارجية، كما أنه عُين سفيراً في باريسوأنقرة بمرتبة وزير مفوض، وسفير فوق العادة، ثم بعد ذلك أصبح مستشاراً للملك المؤسس، وحاز ثقته وكلفه بعدة مهام رسمية، وقد زار القارة الأوروبية والولايات المتحدةالأمريكية بتكليف من المؤسس ورافق الملك فيصل -رحمه الله- في زيارته لأوروبا عندما كان وزيراً للخارجية، إنه الدبلوماسي المحنك والمؤرخ والأديب فؤاد حمزة -رحمه الله-، الذي لم يكن فقط دبلوماسياً، بل كتب عن تاريخ الجزيرة العربية وعن المملكة العربية السعودية، وقبلها عن الدولة السعودية الأولى والثانية في موسوعته الشهيرة (قلب جزيرة العرب) الذي يعد أحد أهم المصادر والمراجع التاريخية. ويكاد يجمع من كتبوا عنه أو عرفوه أنه من المتميزين النوابغ الذين عملوا مع الملك المؤسس، باذلاً في خدمته كل ما يمكنه من طاقات وهبه الله إياها، وقد كان أميناً صادقاً مخلصاً حينما يكلف أو توكل إليه أية أمور من الملك المؤسس أو من وزير الخارجية الملك فيصل، وقد استمر عطاؤه بدون توقف حتى فارق هذه الدنيا. يقول الرائد إبراهيم الشورى عن فؤاد حمزة في تقديمه لكتاب شخصيتنا «بلاد عسير»: مما لا شك فيه أن فؤاد بك حمزة رجل من أكرم رجالات المملكة وأشدهم غيرة على قوميته، وأبرزهم همة ومروءة وشهامة، ولقد خدم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن مدة نحو ربع قرن، فكان ولا يزال، الرجل المخلص في جميع المناصب التي تقلدها في جميع أدوار حياته، والأمين الوفي، والحارس على شتى الشؤون الخارجية للمملكة، وتولى إجراء بعض المفاوضات، وصاغ اتفاقيات جمة، وأضطلع بأعباء ومهمات خاصة، فكسب في جميع ما تولاه ثقة الملك المعظم وتقديره السامي. كريم السجايا ويتابع إبراهيم الشورى في تقديمه لكتاب شخصيتنا «بلاد عسير»: عرفت فؤاد حمزة من نحو 23 عاماً في مواقف شتى وحوادث متعددة، فكان فيها كلها بلا استثناء يهدف إلى الصالح العام ويرجوا الخير لأهله ووطنه، وقليل هم الذين يحبون الخير للجميع، وهو مع شدته في الحق، وصلابته فيما يراه صواباً، طيب القلب، لين العريكة، كريم السجايا، رضي النفس، أنموذجاً للخلق العظيم، ومثلاً حسناً للشباب والرجولة الحقة، ومما أشتهر به الحركة والدأب على العمل، فقد كان يحب العلم ويميل إلى الدرس، وله بحوث قيمة في تاريخ الجزيرة العربية، يدل عليها كتابه النفيس (قلب الجزيرة العربية) -انتهى كلامه-. وقال خير الدين الزركلي -زميل فؤاد حمزة في العمل الدبلوماسي- في كتابه (الأعلام): كان فؤاد دؤوباً على العمل، فما كاد ينتهي من عمله الحكومي، حتى يتناول بحثاً في التاريخ أو السياسة ويعالجه، وعنّي قبل وفاته بدراسة أثر الجزيرة قبل الإسلام» -انتهى كلامه-. سعة أفق وأثنى المؤرخ فهد المارك في كتابه (من شيم العرب) على فؤاد حمزة قائلاً: لقد كنت من ألصق الناس به، وكنت أعرف عنه الشهامة وسعة الأفق ولكنني لم أفكر مطلقاً أنه يقوم بعمارات المساجد من جديد على نفقته وبصورة سرية إلاّ في يوم وفاته -غفر الله له-، فعندما حمل جثمانه وجيء به إلى المسجد القريب من منزله في رأس بيروت ليصلى عليه، وعندما وقف الإمام الشيخ سعدي قاصداً أن يكبر على جثمانه التكبيرة الأولى، في تلك اللحظة تنهد ثم انحرف عن المأمونين وقال: ترحموا معي على هذا الميت؛ لأن هذا المسجد العامر كنت أجمع من المحسنين الليرة والليرتين لعمرانه، وعندما جئت إليه عارضاً ورقة تشمل أسماء المتبرعين قاصداً أن يساهم بما تجود به مرؤته، فما كان منه إلى أن مزق الورقة وقال: عمّر هذا المسجد على نفقتي شريطة ألاّ يعلم أحد أنني المكتفل ببنائه. وذكر المارك موقفاً آخر يدل على مكارم فؤاد حمزة، وهو أنه قام ببناء مدرسة في سوريا على نفقته في قرية الاشرافية كلفته 30 ألف ليرة وقد خلدها المارك في كتابه (من شيم العرب) -انتهى كلامه-. لجان داخلية وقال المؤرخ يعقوب الرشيد الدغيثر عن فؤاد حمزة أنه من أفضل المستشارين الذين خدموا الملك عبدالعزيز وأنه معروف بالنزاهة والدبلوماسية المتقنة -انتهى كلامه-، ونوه بذكره المؤرخ عبدالله فيلبي -رحمه الله- الدبلوماسي والمستشار السياسي. وشخصيتنا جمع بين صفات قلّ أن تجتمع في شخصية واحدة الدبلوماسي، والمستشار السياسي، والمعلم، والباحث الميداني، والمثقف الموسوعي، والمراقب الدقيق للتحولات الاجتماعية، وقد عاش في حقبة مليئة بالأحداث الكبرى، وشهد من موقعه القريب من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أهم مراحل بناء الكيان السعودي الحديث، كان يجيد العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية، مما ساعده في التواصل مع الدبلوماسيين الأجانب، خاصةً البريطانيين، ودافع عن القضايا العربية في المحافل الدولية، كما شارك في لجان داخلية مثل لجنة التفتيش والإصلاح 1346ه، ولجنة سن الأنظمة 1346ه، ومجلس الوكلاء 1350ه، وكان شخصيتنا باحثًا مهتمًا بالتاريخ، الجغرافيا، الخرائط، والآثار، وقد ألف كتبًا ركزت على وصف المملكة جغرافيًا وسياسيًا. بحث وتساؤل وُلد فؤاد حمزة عام 1899م في قرية «عبيه» الواقعة في جبل لبنان، لأسرة درزية معروفة بتعليم أبنائها واهتمامها بالثقافة، وقد شكّلت البيئة اللبنانية في مطلع القرن العشرين مساحة غنية بالتنوع الطائفي والثقافي والسياسي، ما جعل طفولته الأولى محاطة بنقاشات فكرية وتغيّرات اجتماعية ورؤى متعددة للعالم، وهي أجواء لعبت دورًا في تكوين شخصية مسكونة بالبحث والتساؤل والتدقيق، كانت المدرسة في لبنان بداية انفتاحه على اللغات الأجنبية، خاصةً الإنجليزية التي أتقنها مبكرًا، وأصبح يجيد استخدامها كتابةً وحديثًا، وهو ما جعله لاحقًا من القلائل الذين يجمعون بين القدرة على الترجمة والتحليل السياسي، كما كان قارئًا نهمًا، يقرأ في التاريخ والآداب والجغرافيا والنظم السياسية، وهو ما رسّخ لديه رؤية موسوعية، ومن دلائل قدرته الاستثنائية في شبابه أنه انتقل في عمر مبكر جدًا للعمل في القدس، وهي مدينة ذات طابع سياسي وثقافي بالغ الحساسية، مما ساعده على تأسيس شبكة فهم معمّق للطبيعة المعقدة للعالم العربي آنذاك. احتكاك بالنخب لقد بدأت مسيرة فؤاد حمزة المهنية في القدس، حيث عمل مدرسًا في المدرسة الرشيدية، ولم يكن التدريس بالنسبة إليه مجرد حرفة، بل وسيلة يومية للبحث وإعادة تفسير المعرفة، وقد احتك بالنخب المثقفة في فلسطينوالقدس، واستفاد من البيئة التي كانت تموج بالأحداث بسبب الانتداب البريطاني، بعد القدس، انتقل إلى دمشق ليعمل في المدارس الحكومية، وهناك عاش لحظة تاريخية مهمة تمثلت في تشكّل الهوية العربية الحديثة بعد، حيث كانت دمشق مركزًا للحركة الوطنية والسياسية، وفيها التقى شخصيات فكرية عربية تركت أثرًا عليه، كما أسهم احتكاكه بالمثقفين الشوام في صياغة لغته العربية الرصينة التي تظهر بقوة في مؤلفاته، وفي خطاباته الدبلوماسية اللاحقة، وفي 1926م أنهى دراسته في معهد الحقوق الفلسطيني، وقد منحته هذه الدراسة قدرة استثنائية على قراءة الأنظمة السياسية وفهم القوانين الدولية، وكذلك التعامل بطلاقة مع المصطلحات القانونية التي يحتاجها أي رجل دبلوماسية أو مسؤول خارجي، وهذا المزيج بين التعليم واللغة والقانون شكّل الركائز الأساسية التي قامت عليها شخصيته الإدارية لاحقًا. نقطة تحوّل وشكّل وصول فؤاد حمزة إلى المملكة نقطة تحوّل كبرى في حياته، وقد جاء بتوصية مباشرة من شكري القوتلي -أحد الشخصيات العربية المؤثرة- وهو ما يدل على أن شخصيتنا كان قد أثبت قدراته قبل وصوله إلى الحجاز، ومع وصوله إلى مكة، عُين مترجمًا خاصًا للملك عبدالعزيز -رحمه الله- وهو منصب حساس جدًا؛ فالمترجم في تلك المرحلة لم يكن مجرد ناقل كلمات، بل كان مستشارًا يشرح ويحلل ويساهم في قراءة المواقف الدولية، وأظهر قدرات عالية أكسبته ثقة الملك سريعًا، فعُيّن في عام 1926م معاونًا لمدير الشؤون الخارجية عبدالله الدملوجي، ثم تسلم إدارة المديرية بعد استقالة الدملوجي، وقد كانت الدولة الناشئة بحاجة ماسة إلى رجل يعرف اللغات، ويفهم العلاقات الدولية، ويستطيع أن يكتب الرسائل السياسية، ويحلل الوثائق، وينظر للعالم من نافذة أوسع من نافذة نجد والجزيرة، وقد كان شخصيتنا الأنسب لهذا الدور. وفي 1930، حين تحولت مديرية الشؤون الخارجية إلى وزارة، أسندت حقيبتها إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز –رحمه الله- ، وأصبح شخصيتنا وكيلاً للوزارة، وهو منصب مكّنه من إدارة القسم الأكبر من العلاقات الخارجية للمملكة لمدة تسعة أعوام كاملة، وهي من أهم سنوات التأسيس. رجل حوار وعُين فؤاد حمزة وزيرًا مفوضًا ومندوبًا فوق العادة في باريس عام 1939م، وهي لحظة دولية بالغة الحساسية، ولم يكد يقدّم أوراق اعتماده حتى اشتعلت الحرب العالمية الثانية، فأصبح مسؤولاً عن رفع تقارير دقيقة للقيادة السعودية حول تطورات الحرب، وتقييم موقف فرنسا ومآلات الصراع، وسعى مع آخرين من أجل تأمين مصالح المملكة في أوروبا، وبناء شبكة علاقات دبلوماسية جديدة. وفي تركيا ما بين 1943م و1945م نُقل إلى أنقرة وزيرًا مفوضًا، وهناك كتب ملاحظاته اليومية الدقيقة عن تركيا الكمالية، وهي إحدى أهم الوثائق التي تشرح التحولات السياسية في تركيا الحديثة، وتحوّلت هذه الملاحظات إلى كتاب مؤلف بطريقة شديدة الدقة، يسجل فيها تفاصيل الحياة التركية، ونظام الحكم، والمؤسسات، وتحول المجتمع، وقد عرف عنه أنه كان رجل حوار هادئًا، ويجيد التفاوض ويدير المباحثات الدبلوماسية بكفاءة واقتدار. كنز تاريخي وعلى الرغم من مسؤوليات فؤاد حمزة الثقيلة، كان باحثًا ميدانيًا من الطراز الأول، وقد ترك عددًا من أهم الكتب العربية عن الجزيرة العربية، ومنها (البلاد العربية السعودية) -1936م-، وهو أول كتاب يقدم رؤية متكاملة لأرض المملكة وتاريخها وسكانها ونظام الحكم فيها، ويعد من أعمدة المؤلفات التي لا تزال حتى اليوم مرجعًا رئيسيًا، كذلك كتاب (قلب جزيرة العرب)، وعرض فيه وصف ميداني لرحلاته في نجد، وتحليل للحياة الاجتماعية والاقتصادية، إضافةً إلى كتاب (في بلاد عسير)، وهو دراسة دقيقة للجنوب السعودي، وجغرافيته وتاريخه وسكانه، إلى جانب مخطوطات غير منشورة ومنها تاريخ العرب قبل الإسلام، ودراسة موسعة عن سوق عكاظ، ووثيقة عن الرومان، وشذريات في الجغرافيا والتاريخ. كان شخصيتنا يرى أن فهم السياسة لا يمكن أن ينفصل عن فهم المجتمع، لذلك ركز في مذكراته على العادات والتقاليد، والشعر النبطي، والعلاقات بين القبائل، وكذلك التركيبة الاجتماعية في نجد والحجاز وعسير، وأثر الجغرافيا في تشكل المجتمع العربي، وقد ذكر شيئاً كثيراً من هذا في كتابه «بلاد عسير»، وكذلك كتابه «قلب جزيرة العرب»، الذي يحتاج إلى تحقيق وتصحيح واستدراك وإضافة، كما كان مولعًا بتوثيق الملاحظات اليومية، وهو ما جعل مذكراته كنزًا تاريخيًا لا يقدر بثمن. مكتبة ضخمة وترك فؤاد حمزة مكتبته الضخمة التي تضم 1257 عنوانًا، بين كتب نادرة ومخطوطات وملفات سياسية، وقد نُقلت إلى دارة الملك عبدالعزيز، كما نشرت الدارة مذكراته 2016م، بعد جهود كبيرة من أسرته وعلى رأسهم ابنه د.عمر حمزة، كما أن صوره ووثائقه تظهر باستمرار في المنشورات الرسمية والمعارض التاريخية وباختصار، يبقى شخصيتنا رمزًا للعربي المثقف الذي أعطى كل حياته لخدمة المملكة. وعانى فؤاد حمزة منذ شبابه من مشكلات قلبية، وكان الإرهاق والسفر يزيدان حالته سوءًا، لكنه واصل العمل حتى آخر حياته، وتوفي في بيروت 1951م عن 52 عامًا فقط، ودفن في مسقط رأسه عبيه، لقد كانت وفاته فاجعة كبرى، حيث كانت شخصيته ذات كاريزما وحضور دبلوماسي وسياسي وثقافي وتاريخي في تاريخ المملكة والجزيرة العربية والعالم العربي، رحمه الله وغفر له وعفا عنه. وأخيراً، استفدنا من مقال الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الشبيلي بعنوان «فؤاد حمزة، مذكرات نصف عمر في خدمة الدبلوماسية السعودية غطّت حقبة مهمة من تاريخ تأسيس الدولة في محيطيها العربي والداخلي»، والذي تم نشره بجريدة الشرق الأوسط 2017م، كما تمت الاستفادة من مقال الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي والتي كانت بعنوان «مذكرات فؤاد حمزة»، والذي تم نشره بجريدة الجزيرة 2017م، وكذلك تمت الاستفادة من عدد من المواقع الإلكترونية مثل موقع المعرفة وموقع ويكيبيديا والتي تناولت السيرة الذاتية لشخصيتنا، وقد تمت صياغتها صياغة صحفية سلسة. فؤاد حمزة -رحمه الله- عُيّن مترجمًا خاصًا للملك عبدالعزيز -رحمه الله- ترك فؤاد حمزة مكتبة ضخمة ضمّت كتباً نادرة ومخطوطات «أرشيفية» إعداد- صلاح الزامل