حذّرت إستراتيجية الأمن القومي الأميركية لعام 2025 (الصادرة في 4 ديسمبر 2025) بصراحة غير مسبوقة من أزمة ديموغرافية خطيرة تهدّد أوروبا، ووصفتها صراحة بحالة "محو حضاري Civilizational Erasure" أي أن أوروبا قد تفقد هويتها الثقافية والحضارية تمامًا خلال عشرين عامًا أو أقل. وتتساءل الإستراتيجية عمّا إذا كانت دول الناتو المستقبلية ذات الأغلبية غير الأوروبية سيبقون حلفاء موثوقين. وبهذا تعلن واشنطن صراحة رغبتها في "بقاء أوروبا أوروبية" واستعادة ثقتها الحضارية، وتدعم علنًا الأحزاب القومية المعارضة للاتجاهات الحالية. وهذا يُنذر بتحول أميركي جذري من الحذر الدبلوماسي إلى التدخّل المباشر، بوصف الظاهرة الديموغرافية الأوروبية تهديدًا استراتيجيًا للأمن القومي الأميركي. والواقع أن أوروبا فعلًا تواجه تحوّلًا ديموغرافيًا غير مسبوق. إذ ستواجه القارة العجوز حسب المؤشرات بحلول منتصف القرن 21، أزمة عميقة تمس جوهرها الاقتصادي والأمني والاجتماعي. ويكمن جوهر الأزمة في الانهيار الحاد لمعدّلات الخصوبة. فبينما يتطلب استقرار عدد السكان معدّل 2.1 طفل لكل امرأة، تسجل معظم دول الاتحاد الأوروبي أرقامًا أدنى بكثير: إيطاليا عند 1.3، ألمانيا 1.5، وبولندا 1.4. وهذا يعني أن كل جيل جديد سيكون أقل بنحو ثلاثين بالمئة من سابقه. ولا تقتصر الظاهرة على غرب أوروبا، إذ تشهد دول شرق أوروبا كالمجر ولاتفيا وليتوانيا انحدارًا ديموغرافيًا يقارب واحدًا بالمئة سنويًا نتيجة الهجرة وتراجع المواليد. وبحلول 2050، ستفقد ألمانيا –العمود الفقري الاقتصادي والعسكري للقارة– من شريحة شبابها دون العشرين أكثر من 20% (44% في سيناريوهات سلبية). ناهيك عن حقيقة أن الجيش الألماني يعاني اليوم من وجود 20 ألف وظيفة شاغرة، فكيف ستكون الحال مستقبلًا. وستظهر التداعيات الأولى في سوق العمل الأوروبي بوضوح، حيث ستُعاني قطاعات حيوية كالرعاية الصحية والهندسية والبناء من نقصٍ حاد في الكوادر. وسيُثقل هذا كاهل أنظمة التقاعد، إذ سيضطر عدد أقل من العاملين لدعم متقاعدين أكثر. عسكريًا، سيجبر تقلّص عدد المجنّدين المحتملين دولًا مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ربما على توظيف مهاجرين في مواقع حسّاسة ظلّت محظورة تاريخيًا. ومما يبدو فالجدال المحتدم حول الحلول المطروحة، يواجه انقسامات شتّى لمحدودية فعاليتها. فالأتمتة والذكاء الاصطناعي يمكنهما تعويض النقص جزئيًا في التصنيع والخدمات اللوجستية، لكنهما عاجزان عن استبدال العمالة البشرية في مجالات معينة مثل الطب والرعاية والتعليم والإنشاءات والخدمة العسكرية. كما أن سياسات تحفيز الإنجاب عبر الدعم المالي، وإجازات الوالدين مكلّفة وذات نتائج ضعيفة، فالدول التي اعتمدتها لم تبلغ معدّل الإحلال بعد. وكذلك فزيادة مشاركة النساء ورفع سن التقاعد لها حدودها أيضًا. أما الحلول المتطرّفة كإجبار الناس على الإنجاب أو إغلاق الحدود كليًا أمام المهاجرين فتبدو غير واقعية ومستحيلة التطبيق. وأمام هذا الواقع، فقد تتحوّل سياسات قبول الهجرة من اختيار إلى ضرورة حتمية، وهنا يكمن الانتقال الأعمق. إذ ستستقبل أوروبا مجتمعات مهاجرة (تتميّز بمعدّلات خصوبة أعلى) من دول ذات كثافة سكانية عالية خاصة من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا. وعلى مدى جيلين، ستغيّر هذه التحوّلات الاضطرارية شكل التركيبة الديموغرافية للقارة، مما يفرض تنوّعًا ثقافيًّا ودينيًا أكبر مع انخفاض نسبة المسيحيين الأوروبيين البيض. وقد بدأت تجليّات هذا التحوّل بالظهور في شكل توتّرات اجتماعية وسياسية يعكسها صعود الأحزاب اليمينية المتطرّفة. ويبقى النهج الأكثر عملية ربما، في تصميم برامج هجرة موجّهة تستقطب الشباب والعمّال المهرة والأسر، ولكن هذا يعني مرة أخرى "إعادة تشكيل التركيبة السكانية" وهي عملية محفوفة بالحساسيات السياسية والثقافية. الخُلاصة، إن كل ما تحويه سلّة التحدّيات هذه، يجعل أوروبا تقف عند مفرق طرق تاريخي: إما قُبول التحوّل الديموغرافي، وإدارته بذكاء عبر سياسات حكيمة وقبول شكل الهوية الأوروبية الجديدة، أو مواجهة تراجع اقتصادي واستراتيجي سيغيّر وضعها الداخلي ومكانتها العالمية. *قال ومضى: كل أرض جفّت جذورها، تهدي إليها الريح غريب بذورها..