في عالم الثقافة، لا تُقاس التحولات فقط بما يُنتج من كتبٍ أو أفلام أو أعمال فنية، بل أيضاً بما تتركه تلك الأعمال من أثرٍ مؤسسي، ومن اعترافٍ رسمي يضمن استمراريتها ويمهّد لانتقالها من الهامش إلى قلب المشهد، وهنا أتت مبادرة "الجوائز الثقافية الوطنية" التي تجاوزت فكرة منصة التكريم والاحتفاء إلى أداةٍ مساهِمَةٍ في رسم خارطةٍ ثقافية سعودية، بإشرافٍ مباشر من وزارة الثقافة التي أطلقت المبادرة في عام 2020 برعايةٍ كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- . منذ الاحتفاء الأول بالفائزين بالنسخة الأولى عام 2021م، ومبادة الجوائز الثقافية الوطنية تحمل طموحاً واضحاً، بأن تكون المرآةَ لما يحدث في الثقافة السعودية، والسجلَّ السنوي الذي يدوّن تاريخ الجهود والكفاح والإبداع. ومع اكتمال خمس نسخٍ كان آخرها الدورة الخامسة في سبتمبر الماضي، بات من الممكن رصد الأثر العميق الذي أحدثته الجوائز، سواءً على مستوى القطاعات الثقافية أو على مستوى الوعي العام بقيمة الإبداع، حيث تسجل الجوائز اكتشافاتٍ عدة، منها اتساع مفهوم الثقافة السعودي، والتي لم تعد محصورةً في الفنون المرئية أو الآداب المكتوبة، بل امتدت إلى العمارة، وفنون الطهي، والتصميم، والأزياء، ومساراتٍ أخرى كالتراث الوطني، والإعلام الثقافي، والحِرف اليدوية، والعمل المؤسسي (الربحي / غير الربحي)، والتي عادت من خلال هذه المبادرة إلى مركز الاهتمام لتُقرأ اليوم بوصفها جزءاً من المعرفة الوطنية، ومن الذاكرة الجماعية التي تتجدد عبر البحث والتوثيق. وتضع الجوائز الثقافية الوطنية خطةً مميزة من خلال توازنها بين الرواد والشباب، فبين جائزة "شخصية العام الثقافية" التي تُسلّط الضوء على رموزٍ أثّرت في مسار الثقافة لعقود، وجائزة "الثقافة للشباب" التي تكتشف أسماءً جديدة تصنع مستقبل الإبداع السعودي، يتشكل جسرٌ بين الجيلين، ليربط الماضي بالحاضر، والخبرة بالطموح، والحِرفة بالرؤية. وتكمن قوة الجوائز أيضاً في قدرتها على تحديد بوصلة التطور الثقافي، فهي تشير كل عام إلى الاتجاهات الصاعدة، فحين تفوز تجربةٌ في مجال الترجمة، فهذا يعني أن حركة المعرفة الدولية في المملكة في حالة نمو، وحين تُكرَّم مبادرةٌ في المسرح، فهذا يضيء على موجةٍ جديدة من التجريب المسرحي، وحين تبرز جائزةٌ في الفنون البصرية، فهذا يعلن حضوراً لمدارس جديدة من التعبير والتقنية. ولأن الثقافة لا تنفصل عن العالم، فإن "جائزة التميز الثقافي الدولي" تجعل من الجوائز مساحةً تمتد من الداخل إلى الخارج، وتفتح نافذةً على الطريقة التي ترى بها المملكة نفسها في الساحة الثقافية العالمية، وكيف تقرأ تأثير أبنائها هناك. ومع وصول عدد مسارات الجوائز الثقافية الوطنية إلى 19 مسار، ظهر النضج المؤسسي الذي وصلت إليه المبادرة، والتي كانت بدايتها بعدد 14 مساراً في دورتها الأولى، لذلك يُعدّ حفل تتويج الفائزين أكبر من كونه مجرد إعلان أسماء، بل هو خارطةٌ بصرية وصوتية للحراك الثقافي بكل تشعُّباته، من الورش الإبداعية الصغيرة وصولاً إلى المشاريع الكبرى التي تشكّل ركناً رئيسياً للثقافة السعودية. وهكذا، ومع كل دورةٍ جديدة من الجوائز، تتجدد معالم الهوية الثقافية، بتخليد أسماء، واكتشاف مواهب، وذاكرةٍ تُكتب، وقصةٍ تُروى بثقةٍ عن مسيرة إبداعٍ ثقافي سعودي.