كان المساء هادئًا في ديوان البابطين بالكويت عام 2009 حين جلس رئيس جزر القمر أحمد عبدالله سامبي أمام العم عبدالعزيز سعود البابطين رحمه الله. لم يكن اللقاء بروتوكوليًا ولا مناسبة مجاملة، بل قولًا صريحًا من رئيس جزر القمر يشبه الاعتراف: "انضممنا إلى جامعة الدول العربية منذ سنوات، لكن العربية لا تزال غريبة في وطنها.". كانت الفرنسية، لغة المستعمر القديم، تهيمن على التعليم والإدارة واللافتات والشوارع في جزر القمر، بينما بقيت العربية محاصرة في حدود المسجد وبعض الكتاتيب، لا تتجاوز كونها لغة عبادة لا لغة حياة عامة. لم يردّ العم عبدالعزيز رحمه الله بكلام إنشائي، بل بسؤال عملي: كيف يمكن للغة أن تعود إلى وطنٍ كامل؟ ومن هذا السؤال ولد منهج التعريب الذي يمثل لدي استراتيجية التعريب العالمي: رؤية تقوم على أن الهوية اللغوية لا تُرمَّم بالشعارات ولا بالخطب ولا بالمؤتمرات، بل بمؤسسات تعليمية راسخة، وبعمل تدريجي طويل النفس يُعيد إدخال اللغة إلى المدرسة والجامعة والإدارة والحياة اليومية. "اللغة العربية ليست تراثًا نفاخر به فحسب، بل أداة نهوض حضاري متى أحسنّا تعليمها وإعادتها إلى مواقع المعرفة والعلم" العم عبدالعزيز سعود البابطين. منذ تأسيس مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية عام 1989، لم يكن اهتمام العم عبدالعزيز سعود البابطين رحمه الله مقتصرًا على رعاية الشعر والأدب، بل كان يرى في الثقافة بوابة لإنقاذ اللغة نفسها. ومع اتساع الرؤية تحوّلت مؤسسة البابطين إلى منصة عربية عالمية نشطة في دعم تعليم اللغة العربية، فبدأ النشاط في أوروبا الغربية عبر جامعات غرناطة وقرطبة ومالقة في إسبانيا حيث أُعيد حضور العربية لغة دراسة وحوار حضاري متصل بتاريخ الأندلس العلمي، ثم انتقل المسار إلى سراييفو في البوسنة وشكودرا في ألبانيا، قبل أن يمتد شمالًا وشرقًا إلى الجامعات في موسكو وسان بطرسبيرغ في روسيا ثم إلى بكين في الصين حيث دُعمت أقسام الدراسات العربية في البيئات الأكاديمية ذات الثقل الاستراتيجي العالمي، ومنها إلى فضاء آسيا الوسطى في كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. مبادرات وبرامج استعادت نبض العربية إلى مؤسسات هذه الدول التعليمية عبر كراسي تعليم، وبرامج أكاديمية، ومبادرات تدريبية، ولوصل شعوبٍ عاشت عقودًا من القطيعة مع اللسان العربي. وموازيًا لذلك أسّس العم عبدالعزيز رحمه الله بعثة سعود البابطين الكويتية للدراسات العليا عام 1974، فانتسب إليها نحو عشرة آلاف طالب من الوطن العربي والعالم شرقًا وغربًا، لتصبح أحد أكبر مسارات الابتعاث الأهلي في المنطقة. وفي الاتجاه نفسه امتد العمل جنوبًا عبر برامج تعليم العربية في السنغال ونيجيريا وتشاد، قبل أن تبلغ الاستراتيجية ذروتها في موروني عاصمة جزر القمر حيث خرج التعريب من حدود القاعات الدراسية ليصبح مشروعًا وطنيًا أعاد العربية إلى الفضاء العام للدولة بأكملها. "الحفاظ على العربية مسؤولية جماعية، تبدأ من مؤسسات التعليم ولا تنتهي عند الكاتب والشاعر والمتحدث بها" العم عبدالعزيز سعود البابطين. وظلت هذه التحركات تمهيدًا هادئًا حتى جاء النموذج الأكثر جرأة في جزر القمر؛ فبرغم انضمامها للجامعة العربية عام 1993 بقيت العربية غريبة في مؤسساتها، إلى أن أعاد لقاء عام 2009 توجيه المسار حين قرر العم عبدالعزيز رحمه الله إطلاق منهج وطني لتعريب الدولة يمتد خمسة عشر عامًا، مموَّلًا بالكامل من أسرته، ليصبح أول مشروع تعريب شامل تُديره مبادرة أهلية عربية خالصة. بدأ العمل بتأسيس مركز الكويت لتعليم اللغة العربية في موروني، وانطلقت الدورات المكثفة لمئات الموظفين الحكوميين وأعضاء البرلمان والمعلمين والطلبة. لم تكن الدروس لتلقين القواعد وحفظ النصوص، بل لتعليم العربية الحيّة القادرة على أن تكون لغة عمل وإدارة وإعلام. وخلال السنوات الأولى وحدها تجاوز عدد الدارسين ثمانمائة قمري تلقّوا تعليمًا مكثفًا مهّد لجيل جديد بدأ يتعامل مع العربية لا بوصفها لغة صلاة فقط، بل لغة معيشة يومية. "إذا كانت السياسة قد فرّقت بين الأمم، فإن الثقافة ما دخلت شيئًا إلا أصلحته وجعلت من اللغة جسرًا للتواصل الإنساني" العم عبدالعزيز سعود البابطين. وبالتوازي مع التعليم خرجت العربية من القاعات إلى الشوارع؛ ظهرت على واجهات الوزارات والطرق واللافتات التجارية، وتبدّل المشهد البصري في المدن القمرية لأول مرة لتغدو العربية لغة دولة لا هامشًا. وتولّى العم عبدالكريم رحمه الله الإدارة الميدانية للمشروع، فأشرف على المعاهد، واستقطاب المعلّمين، وضبط المناهج، لتتكامل رؤية العم عبدالعزيز مع التنفيذ العملي ويأخذ المشروع شكله المؤسسي المتين. وبعد خمسة عشر عامًا أصبحت جزر القمر مثالًا نادرًا لدولة استعادت لغتها عبر التعليم لا عبر المراسيم؛ صارت العربية تُقرأ في المدارس، وتُتداول في الإدارات، ويشبّ عليها جيل جديد يرتبط بالعالم العربي وجدانيًا وثقافيًا. كانت النتائج تُرى في التفاصيل: موظفون يكتبون بالعربية بعد سنوات من الفرنسية، وطلاب يواجهون للمرة الأولى لوحة كُتبت بلغتهم الأم. لقد أثبت أن اللغة لا يُعيد حضورها الخطاب المرتفع، بل نشر ثقافتها في المؤسسات والمناهج، وتحويلها إلى ممارسة يومية تتكوّن بالتدرّج؛ فالحضور اللغوي لا يُفرض، بل يُبنى، وهو عملية تراكمية تحتاج رؤية واضحة وتنفيذًا دقيقًا وصبرًا يمتد حتى تستقرّ اللغة في الوعي والحياة. وفي نهاية هذا المسار الطويل، الممتد من قاعات الجامعات في غرناطةوسراييفووموسكووبكين إلى شوارع موروني المطلة على المحيط، بدا المشهد كما لو أنّ اللغة نفسها تستعيد أنفاسها بعد رحلة شاقة من الغياب والعودة. فاستراتيجية التعريب العالمي لم تكن برامج تعليمية متناثرة، بل مشروعًا حضاريًا متدرجًا بُني على التشخيص الدقيق، والتخطيط المحكم، والتنفيذ المتواصل، والتقييم المستمر الذي يحوّل كل خطوة إلى لبنة في مسار أكبر. وقد انطلقت المسيرة برؤية العم عبدالعزيز سعود البابطين الذي أبصر طريق التعريب في مداه البعيد، بينما تولّى أخوه العم عبدالكريم رحمهما الله تحويل هذه الرؤية إلى خطوات عملية تسير بثبات على الأرض، حتى اكتملت دائرة المنهج بين الفكرة وصيغتها التطبيقية، وبين التخطيط ونتائجه التي بقيت شاهدة على اتساق الجهد ودقته واستدامته. واليوم، ونحن نتأمل أثر هذا المسار في الجامعات التي أعادت فتح أبوابها للعربية لغةَ علم وبحث، وفي الدول التي استعادت حضور العربية في مؤسساتها وإداراتها، وفي الشعوب التي نشأ جيلها الجديد يتكلم العربية على أنها لغة حياة لا مجرد لغة ماضٍ، يبقى الدعاء الصادق أصدق ختام لقصة كتبت فصولها بالفعل لا بالقول. رحم الله العم عبدالعزيز سعود البابطين والعم عبدالكريم، وجعل ما بذلاه لسانًا ناطقًا وصدقتًا جارية في موازين حسناتهما، ونورًا يمتد أثره في طلاب العلم، وفي المعلمين، وفي الجامعات، وفي الأوطان التي أعيدا إليها لسانها العربي الحيّ.