كشف (سيد البيد) الشاعر محمد الثبيتي -رحمه الله- (1432ه)، عن حالة ولادة القصيدة، كيف تبدأ؟ وكيف تولد؟ وكيف يمكن للشعر أن يُفتتح؟ فراح يصف بشعره لحظات انبثاق الشعر، وبداية انسكاب القصيدة، وانهمار العواطف، وتدفّق الصور، والأخيلة، فقال في قصيدته الشهيرة (القصيدة) التي ضمّنها ديوانه (عاشِقةُ الزَّمنِ الوَردِيِّ): «القَصِيدةُ.. إمَّا قَبَضْتَ عَلَى جَمْرِهَا.. وأذَبْتَ الجَوارحَ فِي خَمرِهَا .. فَهْيَ شَهدٌ علَى حدِّ مُوسْ .. فَحَتَّامَ أَنْتَ خلالَ الليَالِي تَجُوسْ .. وعلامَ تَذودُ الكَرَى .. وتُقِيمُ الطُّقوسْ .. وأَلْفٌ مِنَ الفَاتِنَاتِ الأنِيقَاتِ يَفْرَحْنَ .. مَا بينَهُنَّ عرُوسْ .. ولا أنتَ أوتيتَ حكمة لُقْمَا .. ولا هُنَّ أوتِينَ فِتنَةَ يُوسْ .. كيفَ تأتِي القَصِيدةُ .. ما بينَ ليلٍ كئيبٍ ويومٍ عبوسْ؟ .. وماذَا تقولُ القصيدةُ بعدَ .. غروبِ المُنَى .. واغتِرَابِ الشُّمُوسْ .. فَعَلَى الطُّرَقَاتِ تُدَارُ المنايَا .. وفِي الشُّرفَاتِ تُدورُ الكؤُوسْ ... والقَصَائدُ كالنَّاسِ تَحْيا .. لهَا يومُ سعدٍ .. لها يومُ بُوسْ». ولأن القصيدة كما يقول ابن رشيق القيراوني (456ه) في كتابه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده): «إنما لها أول واحد، وآخر واحد»، فهي لا بد أن تبدأ بمطلعٍ تتضح بواسطته البداية، ولا بد أن تنتهي بمقطع تتبين من خلاله النهاية، وعلى أي حال فإن بداية النص الأدبي -شعراً كان أم نثراً- أمر يُحمَد لمؤلف النص، كلما كان جاذباً ومشرباً بالجمال، وهو ملمح يُتفطن من خلاله إلى إبداع ذلك المؤلف؛ ولذلك أشار ابن الأثير (637ه) في كتابه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) إلى أهمية بداية النص الأدبي ونهايته، عندما قال: «فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع». والقصيدة نوع أدبي تتحدّد بعض جمالياتها من خلال مطالعها، وخواتمها، غير أن كثيراً من الدارسين والمهتمين لم يولوا النهاية عنايتهم، كما هو الحال مع البدايات، أو المطالع؛ لذلك رأينا أن نتوقف في هذا المقال عند أهمية النهاية في القصيدة. كيف تنتهي القصيدة إذاً؟! إن نهاية القصيدة تشبه الغطاء الذي يُحكِمُه المؤلف على قصيدته بعد أن ينتهي منها، وهي أشبه ما تكون بالستار الذي ينسدل على القصيدة برمّتها، مؤذناً ببلوغ الشاعر غايته، ووصوله إلى مرامه؛ لذلك رأينا في بعض نهايات القصائد جمالاً مختلفاً، وكأنها قصائد أخرى في حدّ ذاتها، يقول طرفة بن العبد في نهاية معلقته: «ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّدِ = ويأتيك بالأخبارِ من لم تَبِع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقتَ مَوعِدِ»، ويقول زهير بن أبي سلمى في نهاية معلقته: «سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم ... ومن أكثر التسآل يومًا سَيُحرَمِ»، وجاء في شرح الزوزني: «أي: سألناكم رفدكم، ومعروفكم، فجدتم بهما، فعدنا إلى السؤال، وعدتم إلى النوال، ومَن أكثر السؤالَ حرم يومًا لا محالة». والنهايات في شعر المعلقات، وفي الشعر الجاهلي، وشعر عصر صدر الإسلام وما بعده، موطنٌ جميل للدراسة، وفيها حيز كبير من الجماليات التي ربما لم يُتفطّن لها بعدُ. ومن أجمل النهايات في الشعر ختم المتنبي لكثير من قصائده، كقوله مضمّناً توديعه بالسلام: «سأمضي والسلامُ عليكَ مني ... مغيبي ليلتي، وغداً إيابي»، ويقول في أخرى مشيراً إلى معاني الانتهاء والانقضاء: «فقلتُ لكلّ حيٍ يومُ موتٍ..»، ويقول في غيرها: «وقَنِعْتُ باللّقيَا وأولِ نَظرَةٍ ... إنَّ القليلَ من الحبيبِ كَثيرُ»، ومن جميل نهاياته قوله: «فافترقنا حولاً فلما التقينا ... كان تسليمه عليّ وداعا».