كل شيء أصبح بالمقلوب. فالبلدان التي ملأت الفضاء الإعلامي ضجيجاً في بداية التسعينات من القرن المنصرم عن مزايا حرية التجارة العالمية، وعن إلغاء الحدود التجارية بين بلدان العالم، قد انقلبت الآن على كل ما كانت تطبل له. لقد اتضح، أن الجشع كان هو الدافع وراء كل ذلك الضجيج الإعلامي، وليس العولمة وحرية التجارة. والسبب واضح، فالولاياتالمتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا كانوا يتربعون في عام 1995، عندما تم الإعلان عن قيام منظمة التجارة العالمية، على رأس أكثر بلدان العالم تطوراً، وأكبر الاقتصادات في العالم. ولذلك، اعتقدوا أن الفرصة التاريخية، قد أصبحت مواتية للسيطرة على العالم وأسواقه -فهذه الأمنية لم تفارق بالهم على امتداد خمسة قرون- ابتداء من الفتوحات الجغرافية. ولذلك اعتقدوا أن كل شيء قد أصبح جاهزاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. فلقد ظنوا أن إلغاء الرسوم الجمركية على منتجاتهم في جميع بلدان العالم، ومنحهم وضع الدولة الأولى بالرعاية، سوف يدمر الصناعة في بقية البلدان. وذلك على أساس أن المنتجات الصناعة لغيرهم لن تتمكن من منافسة ما ينتجونه. ولكن السحر انقلب على الساحر. فالدول الصناعية الجديدة، وعلى رأسها الصين، قد غيرت المعادلة. وخاصة بعد أزمة الرهن العقاري، في الولاياتالمتحدة عام 2008، والتي تطورت إلى أزمة مالية - اقتصادية عالمية، فقدت الدول الصناعية القديمة خلالها وضعها المميز في الاقتصاد العالمي. فقد تمكنت الصين خلال الفترة الواقعة بين 2005 و2010 من التقدم على بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، وأن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. كذلك تقدمت العديد من البلدان، بما فيها بلدنا، وأصبح ميزان القوى العالمية يميل ليس نحو للشمال، وإنما للجنوب، الذي أصبح ينتج بضائع ذات مزايا تنافسية عالية، تناسب احتياجات أغلب مكونات المجتمع في أي محل في العالم. وفي ظل هذا التطور غير المسبوق، وجدت الدول الصناعية القديمة نفسها في وضع لا يحسد عليه. فقد أصبحت تخسر الأسواق العالمية لصالح البلدان الصناعية الجديدة. ومن يلقي نظرة سريعة على تجارتنا الخارجية، باعتبارها مثالاً لما يجري في بقية أسواق العالم، فسوف يلاحظ أن قائمة أكبر شركائنا التجاريين قد تغيرت، وأصبحت الصين والهند وكوريا الجنوبية والإمارات العربية المتحدة على رأس أكبر الدول التي نتاجر معها. ولذلك، صارت الدول الصناعية القديمة تلجأ للحماية الجمركية، التي كانت تعتبرها في بداية التسعينات من القرن المنصرم عقبة لتطور التجارة والاقتصاد العالمي. بل إن هذه البلدان بعد أن تردى وضعها، صارت تصادر أموال البلدان الأخرى المودعة في بنوكها وتضرب بعرض الحائط مبدأ القدسية الذي كانت تسبغه على الملكية الخاصة. لكن مثلما رأينا في الأسبوع الماضي، فإن الدول الصناعية القديمة لن يتأتى لها تخريب كل ما أنجزه العالم خلال ال 30 عاماً الماضية. فقد انبرت الصين وروسيا، خلال زيارة رئيس الوزراء الروسي لبكين، للدفاع عن النظام التجاري العالمي متعدد الأطراف، وضرورة الحفاظ على سلاسل الإمدادات مستقرة وخالية من العوائق.