في كل مدرسة، هناك ضحكات تُسمع في الساحات، وأحلام تُرسم على وجوه الصغار.. لكن في الزوايا الخفية، قد تختبئ دموع خافتة لطفل يتألم بصمت، لأنّ أحدهم اختار أن يجعل من ضعفه مادة للسخرية. هذا هو التنمّر، ذاك السلوك المؤلم الذي يسرق براءة الطفولة ويترك في النفس ندوبًا لا تُرى بالعين، لكنها تبقى في القلب طويلاً. التنمّر هو استخدام القوة أو النفوذ أو الكلمات الجارحة أو لغة الجسد من نظرات أو إيماءات لإيذاء شخص آخر نفسيًا أو جسديًا أو اجتماعيًا. وقد يكون على شكل سخرية، أو إشاعات، أو عزل اجتماعي، أو اعتداء جسدي، بل وحتى عبر الإنترنت فيما يُعرف ب"التنمر الإلكتروني". لا يولد الطفل متنمّرًا، بل يتعلم هذا السلوك من البيئة المحيطة به. ومن أهم الأسباب: الأسرة المضطربة حين يعيش الطفل في بيت يسوده العنف أو الإهمال، يتعلم أن القوة وسيلة للسيطرة، وضعف الوعي التربوي، فبعض الطلاب لا يدركون خطورة كلماتهم أو تصرفاتهم، فيظنون أن السخرية نوع من "المزاح" والرغبة في لفت الانتباه، فقد يمارس المتنمّر سلوكه ليظهر بمظهر القوي أو ليكسب إعجاب الآخرين، وسائل التواصل الاجتماعي ومع انتشارها صار من السهل إيذاء الآخرين بكلمة أو صورة دون مواجهة مباشرة، فضعف الرقابة المدرسية حين لا توجد متابعة كافية من المعلمين والإدارة، يزداد شعور المتنمّر بأنه "بلا عقاب". زاد التنمّر في السنوات الأخيرة فأحد أهم الأسباب هو التحوّل الرقمي السريع، إذ لم تعد حدود التنمّر تنتهي عند أسوار المدرسة، بل امتدت إلى الشاشات والهواتف. كما أن الضغوط النفسية والاجتماعية التي يمر بها الأطفال والمراهقون اليوم أكبر بكثير مما كانت عليه في الماضي، من منافسة دراسية إلى تشتت أسري أو ضعف في التواصل الحقيقي مع الأهل. التنمّر ليس "مشكلة صغيرة"، بل هو جرح يترك أثرًا عميقًا في الضحية، فيسبب الخوف، والعزلة، وانخفاض الثقة بالنفس، وقد يؤدي إلى الاكتئاب. أما المتنمّر نفسه، فقد يكبر ليصبح شخصًا عدوانيًا أو يعاني من صعوبات في بناء علاقات سليمة. المعالجة تبدأ من الوعي، ثم من الفعل، ومن خلال نشر ثقافة الاحترام والتعاطف في المدارس عبر الأنشطة والبرامج التربوية، تدريب المعلمين على رصد علامات التنمّر والتعامل معها بحكمة، وفتح قنوات تواصل آمنة بين الطلاب والإدارة، ليشعر الضحايا بالأمان في التبليغ، إشراك الأهل في التوعية، لأن العلاج يبدأ من البيت، دمج قيم التسامح والتعاون في المناهج والأنشطة اليومية، وتطبيق قوانين واضحة ضد التنمّر مع التركيز على الإصلاح لا الانتقام، لأن المتنمّر أيضًا بحاجة للعلاج والتوجيه. أخيراً المدرسة ليست مكانًا لتعلم القراءة والكتابة فقط، بل لتعلم الإنسانية قبل كل شيء، حين نعلّم أطفالنا أن الكلمة قد تجرح أكثر من السيف، وأن الاختلاف لا يعني الضعف، نكون قد بدأنا فعلاً في بناء جيل أقوى، أكثر حبًا، وأكثر وعيًا.