قد يذهب ذهن القارئ إلى "ملعب أرامكو" الذي يبدو أنه يسابق الزمن في الإنجاز، وهو أمر غير مستغرب عن هذا الكيان العملاق. لكن وراء الاسم رمز أعمق من مشروع رياضي، فالمعنى الحقيقي للملعب اليوم هو ميدان جديد تتهيأ فيه الشركة لتخوض مباراة مختلفة تمامًا، مباراة الذكاء الصناعي والطاقة الرقمية. لم تعد أرامكو مجرد شركة نفطية تقليدية، بل أصبحت عقلًا اقتصاديًا يقود التحول العالمي نحو مستقبل يُدار بالبيانات لا بالوقود. استوقفتني في الأيام الماضية مجموعة من التصريحات لأمين الناصر، الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية، بدأت من ظهوره اللافت في "مبادرة مستقبل الاستثمار" حين تحدث عن الاستخدام القديم للتقنيات والنماذج الطاقية، مؤكدًا أن العالم بحاجة إلى مقاربة أكثر واقعية. لم يكتفِ الناصر بتأكيد مكانة النفط والغاز في الاقتصاد العالمي، بل قدّم قراءة دقيقة للمستقبل القريب الذي لن يستغني عن الطاقة التقليدية، بل سيعيد توظيفها بذكاء يخدم التحول الرقمي. الناصر لم يتحدث عن النفط كسلعة، بل عن الذكاء كاستثمار استراتيجي. عندما يقول إن "وفرة الطاقة ستجعل المملكة مركزًا عالميًا لمراكز بيانات الذكاء الصناعي"، فهو يعلن أن الطاقة السعودية لم تعد فقط لتشغيل المصانع، بل لتشغيل العقول الإلكترونية. وفي القريب، صرّح للإعلامية سارا آيزن عبر قناة CNBC أن الطلب على الطاقة مازال قويًا وصحيًا، وأن مراكز البيانات ستستهلك بحلول عام 2030 ما يعادل أربعة أضعاف استهلاك جميع السيارات الكهربائية في العالم، في مقارنة تكشف عن تحوّل نوعي في خريطة الطلب العالمي على الطاقة. بكل حال، تمتلك أرامكو القدرة والخبرة لتكون في قلب هذا التحول. فالشركة التي أدارت أعقد شبكات الطاقة في العالم لعقود، تمتلك اليوم بنية تحتية ضخمة من البيانات والأنظمة الذكية تجعلها مؤهلة لتكون مركزًا عالميًا في اقتصاد المعرفة والطاقة النظيفة. ومن خلال مشاريعها في الغاز والطاقة المتجددة ومراكز البيانات التي تُبنى في الظهران ونيوم، تتحرك أرامكو نحو صيغة جديدة من القيادة تجمع بين الخبرة الصناعية والتقنية، وبين الاقتصاد المادي والرقمي في آنٍ واحد. هذه الرؤية لا تنفصل عن رؤية المملكة 2030، بل تمثل أحد أذرعها التنفيذية في إعادة تعريف العلاقة بين الطاقة والابتكار، في انسجامٍ مع التحولات الاقتصادية الكبرى التي تشهدها المملكة والعالم. العالم يعود إلى الواقعية، وأرامكو تتهيأ لتقود هذه العودة، لكن بذكاء متجدد يستمد قوته من مزيجٍ نادر يجمع بين صرامة الصناعة ومرونة الفكر. وبينما تواصل الشركة تشييد ملعبها الحقيقي في الميدان الاقتصادي العالمي، فإنها تثبت مرة أخرى أن السعودية لا تنتظر المستقبل، بل تبنيه على طريقتها؛ بثقة، وعقل، ووقود من الذكاء.