تشير الدراسات العلمية الحديثة إلى أن بناء المناهج التعليمية في عصر الذكاء الاصطناعي يتطلب إعادة التفكير في بنية المعارف والمهارات والقيم المتضمنة في محتوى تلك المناهج وأساليب تنظيمها وتقديمها وتقويمها، بعدما أصبحت نماذج بناء المنهج التقليدية تواجه صعوبة في مواكبة الانفجار المعرفي والتقني المتسارع، وقد أفرز هذا الواقع حاجة ملحّة إلى إعادة بناء مناهج تعليمية جديدة تستجيب لمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، وتستثمر إمكانات الذكاء الاصطناعي في بناء بيئة معرفية تفاعلية تجمع بين التفكير النقدي، والخيال الإبداعي، والقيم الإنسانية، وتستند إلى مبادئ المرونة، والتكامل، والتفاعل المستمر، مع جعل المتعلم محورًا للعملية التعليمية. ولم يعد الذكاء الاصطناعي يُختزل في كونه مجرد وسيلة رقمية تدعم عملية التعلم، بل تحوّل إلى إطار فكري وفلسفي جديد يعيد رسم العلاقة بين أطراف ومكونات العملية التعليمية، ويجعل التعلم عملية حية متجددة، تسهم في إعداد جيل يمتلك مهارات التكيّف والابتكار. فالذكاء الاصطناعي اليوم يشكّل بيئة معرفية متكاملة تتيح تعلّمًا تكييفيًّا مرنًا؛ تُسهم من خلاله الأنظمة الذكية في صناعة مناهج ديناميكية تتفاعل مع أداء المتعلم وتتكيف مع احتياجاته المعرفية والمهارية، من خلال عمليات إلكترونية ذكية تقوم بتحليل استجابات الطالب، وأنماط تعلمه، وسرعة تقدمه، لتعيد تنظيم المحتوى وأنشطة التعلم وفق احتياجاته المعرفية والمهارية في اللحظة ذاتها. وبهذا يتحول المنهج من قالب ثابت إلى منظومة مرنة قابلة للتخصيص الشخصي، تجعل من كل تجربة تعلمٍ تجربة فريدة قائمة على البيانات الواقعية لا الافتراضات المسبقة. إن القيمة الجوهرية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم تكمن في تحويل المناهج من خطط ثابتة إلى مسارات تعلم متغيرة ذاتيًا، تُقدّم المعرفة في صورة شبكية مترابطة ومرنة، تراقب تقدم المتعلم وتدعمه في الوقت المناسب. كما تُسهم هذه البيئة في بناء معرفة أكثر شمولية وتقبّلًا للتنوع الثقافي والاجتماعي، عبر تعزيز التجربة الفردية والتفاعل الاجتماعي، وتمكين المتعلم من المشاركة الفاعلة في بناء معرفته الخاصة، بما يراعي احتياجاته النفسية والعاطفية، ويعزز قيم العدالة والمسؤولية الرقمية. وبذلك تتحول المناهج إلى شبكات معرفية مرنة تسمح للمتعلمين بالتنقل بين المفاهيم والموضوعات وفق اهتماماتهم وسياقاتهم التعليمية، في ظل توظيف برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تتابع تقدمهم وتقدّم لهم محتوى مخصصًا يتناسب مع مستواهم. وتمكّن هذه المرونة المتعلم من أن يكون مكتشفًا، وباحثًا، ومنتجًا للمعرفة، لا مجرد متلقٍ لها. وامتد هذا التحول إلى آليات التقويم، إذ انتقلت من الطابع الختامي الثابت نسبياً إلى التقويم التكييفي الذي يوظّف الأنظمة الذكية في تحليل أداء المتعلم لحظة بلحظة، ويقدّم له تغذية راجعة فورية تسهم في تعديل المسار وتحفيز التفكير النقدي والإبداعي أثناء التعلم. ومع اتساع آفاق الذكاء الاصطناعي في تطوير المناهج التعليمية، تبرز في المقابل تحديات أخلاقية عميقة تمس جوهر العملية التربوية. فكلما ازدادت قدرة الأنظمة الذكية على التنبؤ والتكيّف والامتداد المعرفي، زادت الحاجة إلى حوكمة رشيدة تضبط مساراتها وتضمن انسجامها مع القيم الإنسانية. إذ ينطوي توظيفها على تحديات تتعلق بالخصوصية، والتحيّز في أنظمة الذكاء الاصطناعي، وصون الحقوق الفكرية. ومن هنا تأتي أهمية بناء إطار أخلاقي متكامل يوجّه الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي، ويصون المتعلمين من الانجراف نحو الاعتماد غير الواعي على الأنظمة الآلية. كما يقتضي ذلك ترسيخ ثقافة رقمية نقدية تمكّن المتعلم من التفاعل الواعي مع التقنية بوصف التقنية وسيلةً للتعلم لا غايةً في ذاتها، وبما يحقق توازنًا واعيًا بين التقدّم التقني وعمق الفكر، وبين اتساع المعرفة ومسؤوليتها الأخلاقية. أستاذ المناهج بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية