الخمسة أعوام القادمة ستفتح فصلًا جديدًا في قصة التأمين السعودي، فصل التحول والذكاء والاستدامة. فبين هيئة تُعيد تنظيم قواعد اللعبة، وتشريعات تُعيد هيكلته، ورقمنة تمتد إلى كل زاوية من الاقتصاد، يقف قطاع التأمين على أعتاب تحول غير مسبوق في تاريخه. لم يعد التأمين مجرد أداة لتعويض الخسائر، بل أصبح شريكًا فاعلًا في الوقاية والاستدامة، وركيزة أساسية من ركائز التحول الوطني نحو جودة حياة أكثر أمانًا ووعيًا، وقد وصل عدد المؤمن عليهم في المملكة اليوم إلى نحو 14 مليون شخص، أي ما يقارب 70 % من نسبة الإلزام المستهدفة، في دلالة واضحة على اتساع قاعدة المستفيدين وتنامي الثقة بالمنظومة التأمينية ودورها في حماية المجتمع. لقد شكّل تأسيس الهيئة العامة للتأمين لحظة مفصلية في مسار هذه الصناعة، إذ لم تعد جهة رقابية تتابع الالتزام فحسب، بل أصبحت محركًا للتطوير ورفع الكفاءة وتعزيز الثقة. فالمشهد اليوم يتجاوز مجرد تنظيم السوق إلى بناء منظومة متكاملة تربط بين النمو الاقتصادي وحماية الأفراد والممتلكات. ومن خلال توحيد المرجعيات وتحديث السياسات، تسعى الهيئة إلى خلق بيئة تأمينية قادرة على التوسع والابتكار، تُسهم في تحقيق مستهدفات رؤية 2030 وتعزز استدامة الاقتصاد الوطني. وفي هذا السياق، جاء نظام التأمين الجديد ليمنح القطاع دفعة تشريعية تعكس احتياجات العصر الرقمي. فالنظام لا يكتفي بتقوية حماية المؤمن لهم، بل يفتح الباب أمام منتجات متخصصة تتماشى مع التحولات التقنية مثل التأمين ضد المخاطر السيبرانية وتأمين البيانات والمسؤوليات المهنية. كما أنه يعزز مبادئ الحوكمة والمساءلة، ويجعل الشفافية محور العلاقة بين الشركات والعملاء، لترسيخ الثقة كقيمة محورية في سوقٍ يتسارع نموه واتساعه. ولا يمكن الحديث عن المستقبل دون التوقف عند التحول الذكي الذي يُعيد تعريف التأمين. فالذكاء الاصطناعي بات اليوم العقل التشغيلي للقطاع، إذ يدير عمليات التسعير وإدارة المطالبات، ويتنبأ بالمخاطر الصحية، ويكشف الاحتيال قبل وقوعه. كما أسهم تحليل البيانات الضخمة في تطوير أنماط التأمين الوقائي، حيث تُقدّم الشركات برامج متابعة صحية ذكية تقلل معدلات الخطر وتخفف من أعباء المطالبات. ومع انتشار التطبيقات والمنصات الرقمية، بات بإمكان المستفيد إدارة وثيقته ومتابعة خدماته بضغطة زر، في تجربة أكثر سرعة ومرونة وشفافية. لكن التحول الأعمق هو ذاك الذي يطال وعي المجتمع نفسه. فالثقافة التأمينية في السعودية تتبدّل تدريجيًا من اعتبار التأمين التزامًا ماليًا إلى إدراكه كوسيلة لحماية المستقبل وضمان الاستقرار. ومع ازدياد ثقة المستهلكين بالمنظومة، تتجه الشركات إلى تقديم قيمة مضافة تتجاوز التسعير إلى الابتكار في الخدمة والمحتوى، مثل برامج الصحة الوقائية والرعاية الرقمية والرعاية المنزلية. وفي ظل ارتفاع التكاليف الطبية عالميًا، يبرز تحدي التضخم الطبي كأحد أكثر الملفات حساسية أمام صناع القرار. إذ يتطلب الأمر نماذج عمل أكثر دقة وعدلاً في التسعير وإدارة المخاطر، مع تعزيز التعاون بين شركات التأمين ومقدمي الخدمات الصحية والجهات التنظيمية لاحتواء التضخم دون المساس بجودة الرعاية أو كفاءة الخدمات المقدمة للمستفيدين خلال الأعوام الخمسة المقبلة، يُتوقع أن يتحول التأمين السعودي إلى صناعة أكثر ذكاءً وتكاملًا واستدامة، تُسهم في تحقيق التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والمسؤولية الاجتماعية. فالتنظيم الحديث، والتقنيات المتقدمة، والوعي المجتمعي المتنامي، تشكّل معًا معادلة مثالية لقطاع لم يعد ردّ فعل تجاه الأزمات، بل أداة استباقية لبناء الثقة، وحماية التنمية، ودعم استدامة الاقتصاد الوطني. * الرئيس التنفيذي لشركة بوبا العربية للتأمين التعاوني