في مقهى صغير شمال الرياض، يجلس شاب عشريني يطوّر تطبيقًا بسيطًا لإدارة الوقت. على الطاولة المقابلة، تتناقش فتاتان حول فكرة مشروع ناشئ لتصميم منتجات سعودية مستدامة. مشهد كهذا لم يكن مألوفًا قبل عقد من الزمن، حين كان حلم الغالبية ينحصر في وظيفة حكومية مستقرة. اليوم تغيّر السؤال الجوهري: من "أين أعمل؟" إلى "ماذا أبتكر؟". إنه التحول الثقافي العميق الذي مهّدت له رؤية السعودية 2030، حين أعادت تعريف العلاقة بين الشباب والعمل، وبين الفرد والدولة، لتتحول من علاقة "توظيف" إلى علاقة تمكين. تشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء إلى انخفاض معدل البطالة بين السعوديين إلى نحو 7.7% في الربع الأول من عام 2025، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من عشر سنوات. غير أن الرقم، على أهميته، لا يختزل القصة؛ فالتغيير الحقيقي حدث في عقلية الشباب الذين باتوا ينظرون إلى المخاطرة باعتبارها جزءًا من النمو، وإلى الفشل كخطوة نحو النجاح. لقد تحوّل مفهوم الأمن الوظيفي من "راتب ثابت" إلى "مهارة مستدامة"، ومن انتظار الوظيفة إلى صناعة الفرصة. في هذا التحول، لم تكتفِ المملكة بتشجيع الخطاب الريادي، بل أنشأت منظومة متكاملة للابتكار وريادة الأعمال. فبرنامج "منشآت" أصبح حاضنا لمئات المشاريع الناشئة، ومبادرات مثل "هاكاثون الدرعية" و"سُكّر" أسهمت في تخريج جيل رقمي يتقن أدوات المستقبل. كما أن صندوق الاستثمارات العامة دخل إلى ميدان الريادة بتمويل مشاريع تقنية ناشئة، فيما تجاوز عدد المنشآت الصغيرة والمتوسطة 1.3 مليون منشأة في عام 2025 رقم يعكس ديناميكية الاقتصاد الجديد وحيويته. لكن الريادة ليست مجرد أرقام أو شعارات، بل ثقافة جديدة في التفكير. ثقافة تسأل: كيف يمكن للتقنية أن تحلّ مشكلة مجتمعية؟ وكيف يمكن للمنتج المحلي أن ينافس عالميًا؟ ومن رحم هذه الأسئلة وُلدت شركات سعودية باتت جزءًا من المشهد الدولي مثل Tamara في قطاع "الفنتك"، وFoodics في إدارة المطاعم الذكية، وNana في التجارة الرقمية. إنها قصص نجاح تعبّر عن تحوّل المملكة من اقتصاد يعتمد على الموارد إلى اقتصاد يقوده الإبداع من استيراد الحلول إلى تصدير الأفكار. ولعل الأهم في هذا التحول هو أن الشباب السعودي لم يعد يعرّف نفسه من خلال عمله فقط، بل من خلال أثره. لم تعد الريادة سعيًا وراء الربح فحسب، بل وسيلة للمساهمة في التنمية، وامتدادًا للقيم الوطنية التي تربط النجاح الفردي بالمصلحة العامة. وهكذا تتقاطع الطموحات الفردية مع الطموح الوطني في بناء اقتصاد معرفة قادر على المنافسة عالميًا. اليوم، حين تسير في شوارع الرياض أو جدة أو نيوم، ترى أن الحراك لا يقتصر على البنيان، بل يشمل طريقة التفكير. جيل جديد يصوغ معنى العمل من جديد، يرى في الفكرة مشروعًا، وفي الفشل درسًا، وفي الريادة طريقًا للنهضة. إنه جيل لا ينتظر المستقبل؛ بل يصنعه. وربما يمكن القول في النهاية إن المملكة لا تخلق وظائف بقدر ما تخلق عقولًا جديدة. شبابها لم يعودوا يسيرون على خرائط مرسومة، بل يرسمون خرائطهم الخاصة في عالم يتغير كل يوم. وبين التوظيف والريادة، تولد قصة السعودية الجديدة قصة تؤمن أن المستقبل لا يُنتظر، بل يُبنى، فكرةً بعد فكرة، وريادةً بعد أخرى. وبقيادة واعية تستثمر في الإنسان قبل البنيان، تمضي المملكة بثقة نحو اقتصاد أكثر شمولًا واستدامة، يجعل من الشباب ركيزة التنمية وسفراء الطموح السعودي في كل مجال. إنهم اليوم ليسوا فقط أبناء المستقبل، بل مهندسوه الحقيقيون.