يُعد مفهوم التأويل (أو الهرمينوطيقا Hermeneutics) من المفاهيم الفلسفية التي وجدت طريقها إلى الدراسات الإنسانية والاجتماعية، ثم إلى الدراسات الإعلامية المعاصرة. يعود المصطلح إلى الفكر اليوناني القديم، لكنه تطوّر مع الفلسفة الحديثة بوصفه علماً لفهم النصوص وتفسيرها، خاصة في حقول الدين والأدب والتاريخ، ثم امتد لاحقاً ليشمل الخطاب الإعلامي والثقافي بوصفه نصاً يحتاج إلى فهم وتفسير ضمن سياق اجتماعي وثقافي محدد. وهناك تداخل بين علم التأويل والظاهراتية، حيث يرى الفيلسوف الألماني هانس جورج جادامر أن التأويل ليس مجرد منهج لتحليل النصوص، بل هو فعل إنساني وجودي يتأسس على التفاعل بين القارئ والنص. وفي كتابه الشهير (الحقيقة والمنهج)، يرفض جادامر الفهم الموضوعي الخالص، بل أن الفهم هو عملية تاريخية تتأثر بآفاق القارئ الثقافية والتاريخية، أي أن القارئ لا يواجه النص من فراغ، بل يقترب منه وفي ذهنه مجموعة من التوقعات المسبقة والتجارب السابقة التي يسميها (أفق الفهم). هذا التفاعل بين أفق القارئ وأفق النص يولّد ما يسميه جادامر (اندماج الآفاق)، وهو لحظة الفهم التي يتم فيها التفاعل بين الماضي (النص) والحاضر (القارئ). أما المفكر الفرنسي بول ريكور، فقد قدم رؤية أعمق وأكثر تفصيلاً للتأويل، إذ جمع بين الفلسفة الظاهراتية والتحليل اللغوي والتأمل الوجودي. يرى ريكور أن النص لا يحمل معنى واحداً جاهزاً، بل هو فضاء مفتوح لتعدد المعاني. فالنص، عندما يُكتب، ينفصل عن مؤلفه وعن سياقه الأصلي، ليصبح كياناً مستقلاً قابلاً لإعادة القراءة ضمن سياقات جديدة. ومن هنا فإن مهمة التأويل عند ريكور هي استكشاف (إمكانيات المعنى) الكامنة في النص. وفي كتابه (الزمان والسرد) وكتبه الأخرى، يوضح أن الفهم يمر بمراحل ثلاث: الفهم المبدئي، ثم الشرح التحليلي، ثم الاستيعاب التأويلي الذي يعيد ربط النص بتجربة القارئ والحياة الواقعية. يرتبط هذا المفهوم بما يُعرف ب (الدائرة الهرمنيوطيقية)، وهي فكرة محورية في فلسفة التأويل تعني أن فهم الجزء يعتمد على فهم الكل، وفهم الكل يعتمد على فهم الجزء. فالقارئ يبدأ من انطباع أو فرضية أولية، ثم ينتقل بين التفاصيل والبنية العامة للنص في حركة دائرية متواصلة، إلى أن تتكوّن لديه رؤية متكاملة للمعنى. هذه الدائرة توضح لنا أن الفهم عملية مستمرة وتراكمية وديناميكية لا تنتهي عند تفسير واحد نهائي. ومن أبرز الباحثين الذين طبّقوا المنهج الهرمينوطيقي في الدراسات الإعلامية الباحث البريطاني روجر سيلفرستون Roger Silverstone الذي شكّلت مؤلفاته منعطفاً مهماً في فهم العلاقة بين الإعلام والحياة اليومية من منظور تأويلي. في كتابه (التلفزيون والحياة اليومية) وكتاب (لماذا ندرس الإعلام؟) طرح سيلفرستون فكرة أن دراسة الإعلام ليست مجرد تحليلٍ للمضامين أو التقنيات، بل هي فهم للكيفية التي يصبح بها الإعلام جزءاً من نسيج التجربة الإنسانية اليومية، وكيف يشكّل وعينا بالعالم وبأنفسنا. أما في كتابه (الإعلام والأخلاق) فقد قدّم رؤية هرمنيوطيقية عميقة حول ما يسميه المدينة الإعلامية (ميديابوليس) أي الفضاء الرمزي الذي نعيش فيه مع وسائل الإعلام من حولنا، والذي تتشكّل فيه أخلاقياتنا الجماعية من خلال التفاعل مع الصور والأخبار والتمثيلات الإعلامية. يرى سيلفرستون أن فهم النص الإعلامي يقتضي تأويلاً أخلاقياً، لأن كل رسالة إعلامية تحمل ضمنياً دعوة إلى موقف أو إحساس أو حكم أخلاقي تجاه الآخر والعالم. وهنا يتجاوز التأويل الفهم اللغوي أو الرمزي إلى بعد فكري يربط بين المعنى والمسؤولية الأخلاقية في الاتصال. تتضح الهرمينوطيقا في أعمال سيلفرستون من خلال تركيزه على العلاقة الدائرية بين النص والسياق، وبين الإعلام والحياة اليومية.