ليس في الحياة ما هو أثقل من البقاء في نقطةٍ تجاوزها الزمن، ولا ما هو أشدّ إنهاكًا من الدوران حول فكرةٍ انتهت، أو علاقة تحلّلت في صمتٍ بارد. ومع ذلك، يبقى الإنسان في أعماقه كائنًا مأسورًا بالحنين يُفتّش بين الرماد عن دفءٍ مضى، ويُعيد النظر إلى المدى الذي أدبر عنه لعلّه يرى هنالك ملامحه القديمة. أنْ تتخطى لا تعني أن تعود بفكرك وذاكرتك إلى المربع الصفر.. بل أن تحمل عبء الماضي على ظهرك وتسير به إلى الأمام ومع ذلك تتمكن من التخفّف منه شيئًا فشيئًا.. وأنْ تُزاحم ذاكرتك وأفكارك القديمة بأفكار جديدة وهبَتها لك خبرة الحياة التي ما كانت لتتأتى لولا الألم والمعاناة ومع ذلك تبقى واعيًا. ذاك أنّ التخطي ليس نسيانًا، بل وعيًا أعلى بالنسيان. فهو أن تعي ما كان ثم تمنحه حقّ الفناء. وأن تنظر إلى الوراء بامتنانٍ لا بحنين، ثم تمنحه حقّه في الرحيل؛ لأنّ ما يُؤلمك لم يكن انتهاء الأحداث، وإنما استمرارها بداخلك، فكلّ ما مرّ بك كان ضروريًّا ليُشكّلك لا ليُفنيك. ولذا فالتخطّي ليس إلا ضربًا من شجاعة الإفلات من قبضة الزمن، وأنْ ترى الجمال حتى في النهايات. إنّ التعلّق بفكرةٍ ما ليس في حدّ ذاته سوى فكرةً أخرى أيضًا، غير أنّها فكرةٌ لحوحة ومأزومة ومتطفلة على تفكيرك الحر، فكرةٌ تجد من المشاعر والأماكن والأجواء والمواقف مُناخًا خصبًا لها لتُعاودك المرّة بعد الأخرى. ولأنّ الإنسان يعيش في ظلال أزمنته المتراكبة وليس في زمنٍ واحد، فإنّ فنّ التخطي لا يُمارَس دفعةً واحدة، بل بالتدريج كمن يخلع جلده قطعةً قطعة. فكلّ فكرةٍ تآكلت، وكلّ علاقةٍ انتهت تترك أثرها كوشمٍ باهت على الجسد، لكنّ الوعي يظلُّ القيّم الذي يُقرّر ألا يجعل منها علامة فارقة في الهُوية. إنّنا حين لا نتخطّى نعيش أسرى لفكرةٍ واحدة، وهي أنّ ما فقدناه كان ينبغي له أن يبقى.. تلك الفكرة وحدها تصنع من القلب سجنًا صغيرًا نُعيد طلاء جدرانه ونزينه بألوان ذكرياتنا السامّة. غير أنّ براعة التخطّي لا تكمن في الهروب من الذاكرة، بل في تغيير موضعك داخلها. فتُصبح أنت الناظر لا المنظور إليه، وتفهم أنّ الحبّ مثل الفكرة ليس إلا كائنًا حيًّا له عمره الطبيعي، وأنّ علاقاتنا بالآخرين ليست سوى مراحل من نموّنا الداخلي. ولذا فإنّ النظر إلى هذه الفكرة أيضًا من الأعلى وليس من الداخل يمنحنا تحكّمًا وسيطرة أقوى، وزاوية رؤيةٍ أوسع، ومن ثَمّ صلابة نفسية تقينا تدافع وتأثير النوستالجيا على قلوبنا، وتَحُولُ دون نمو جذورها في أرواحنا. إنّ أخطر ما يُصيب الإنسان بعد الفقد هو أن يُعيد بناء حياته الجديدة حول مكان الألم ذاته. فيتعامل مع الماضي وكأنه مركز جاذبيّةٍ أوحدُ يظلّ يدور في فلكه. لذا أفترض أننا حين نتخطّى فإنّنا لا نعود نتعامل مع الآخرين بوصفهم خسائر أو مكاسب، بل بوصفهم عُبورًا. إذ الفكرة التي نتجاوزها لا نُلغيها بل نُعيد صياغتها في وعيٍ أعمق، فندرك أنّ التخطي لا يعني العبور من شخصٍ إلى آخر، بل من طورٍ إلى طور جديد. فكلّ من أحببناهم وكلّ من خذلونا لم يكونوا غرباء بقدر ما كانوا مرايا عبرنا من خلالها نحو اتّساعنا الداخلي. قد يبدو غريبًا أن نَصِفَ التخطّي بالجمال، لكنّه يبقى في جوهره عملاقًا أخلاقيًّا. لأنّ من يتخطّى لا يَكره ولا ينتقم ولا يتكلّف التصالح؛ ذاك أنّه وببساطة يُعيد ترتيب المسافة بينه وبين العالم. ويُقرّ أنّ الأشياء لم تُخلق لتدوم، وأنّ الإنسان لا ينضج إلّا حين يتخلّى. فالتخطّي يتزيّى رحمةً عندما يمنح النفس فرصة تذوق معنى الفراغ دون خوف، وحينما يغدو إيمانًا بأنّ غياب الأشياء ليس نقصًا وإنّما مساحةً لامتلاءٍ جديد. ومن الجيد أن أشير هنا إلى أنّ مَن يُتقن التخطّي لا يفقد حساسيته، وإنّما يعمل على توجيهها. فهو يتعلّم كيف يُغلق بابًا بهدوء، وكيف يُطفئ فكرةً دون أن يُطفئ نفسه معها. إنّه لحظة وعي يُقرّر فيها أن يُحبّ نفسه بما يكفي ليُوقف نزيفها. أليس هذا هو جمال الروح بعينه؟! عندما ندرك أنّ النهاية ليست خصمًا للوجود، بل إعلانًا عن بدايته القادمة. ولهذا فلا يسعنا وصف التخطّي بأنّه نقيض الحب بل إنّه امتداد نُضجه؛ فالحبّ الذي لا يُمكن تجاوزه لم يكن حبًّا وإنّما استحواذ. وفي النهاية فإنّ التخطّي ليس انتصارًا على أحد أبدًا، بل إنّه انتصارٌ على تشبّثنا بالمكوث في المشهد ذاته. وأن نُدرك أنّ أجمل ما في الحياة ليس في أن نبدأ من جديد، بل في أن نستمر بوعيٍ جديد، إذ يكفي أننا حين نُفكر بما مضى نبتسم.. لا لأننا نسينا، بل لأننا أخيرًا فهمنا.