من قلب الجزيرة العربية إلى مركز العالم الغربي، تعلن الرياضونيويورك معاً بداية مرحلة حضرية جديدة. مرحلة تتجاوز البنى الخرسانية والأبراج٫ لتعلن عن عودة الإنسان إلى صدارة المشهد الحضري، بوصفه أساس وسبب التطور المدني. إنه حراك حضري إنساني يربط بين العدالة المكانية، والكرامة الإنسانية، وتصميم مدن تخدم كل من يعيش فيها، من المواطنين والوافدين ومن العمال إلى صناع القرار. في إطار رؤية السعودية 2030، تشهد الرياض واحدة من أضخم موجات التحول الحضري في العالم. حيث تتحول العاصمة إلى بيئة خضراء، مرنة، مترابطة، وصديقة للإنسان: وسائل نقل ذكية، مسارات مشاة وممرات خضراء، ونطاقات خدمية متكاملة، وأحياء تفاعلية. هذا لي ترفاً عمرانياً، بل استثمار في جودة حياة الإنسان: صحته، وقته، وعلاقته بالمدينة كبيت واسع لا كمتاهة مجهدة. وتُظهر سياسات مثل فرض رسوم الأراضي البيضاء، وتجميد الإيجارات، وتنويع شبكات النقل أن الرياض لا تنتظر لحظة الانهيار الحضري كي تعالج الخلل، بل تسبق الأحداث عبر ضمان الحق العادل للجميع في السكن، و تقييد المضاربات العقارية. الرياض هنا تقدم نموذجاً عربياً حضرياً حديثاً، يقوم على التوازن بين التنمية والإنسان. على الجانب الآخر من العالم، تخوض نيويورك انتخابات بلدية 2025 التي لا تقدم منافسة بين الناخبين فقط بل تختبر فيه مستقبل المدينة نفسها. وفي السباق الانتخابي يبرز المرشح التقدمي زُهران ممداني بوعد جريء:» سنجعل نيويورك ليست فقط للأغنياء أو ذوي العلاقات، بل للجميع». في مدينة تتسارع فيها وتيرة الإقصاء من السكن إلى الرعاية الصحية، خطاب كهذا لا يعبر فقط عن طموح سياسي، بل يعكس أزمة حضرية عميقة تعاني منها معظم المدن الكبرى في العالم: أزمة العدالة في السكن، في المواصلات، في الوصول للخدمات الصحية والاجتماعية. لذا يظهر الحراك الحضري التقدمي كجزء من موجة عالمية حتمية تعيد تعريف وظيفة المدينة كفضاء مشترك يضمن الكرامة للجميع، لا كمجال معلق على رأس المال. وعلى الرغم من اختلاف الزمن، تستحضر هذه التحولات الحضرية الحديثة إرثاً إنسانياً عريقاً. ففي الوعي الحضري الإسلامي العريق، جسدت المدينةالمنورة أول مدينة حضرية. حيث أُسست على الشمول والاستقبال لا الإقصاء، المشاركة لا الاحتكار، التكافل لا التفاضل. ومن بغداد إلى قرطبة، ومن سمرقند إلى فأس، بنيت المدن الإسلامية الكبرى على قيم أخلاقية جعلت كرامة الإنسان في قلب التصميم الحضري. يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: «ولقد كرمنا بني آدم و حملناه في البر والبحر» - تكريم لا يشترط قومية أو طبقية أو قدرة مالية، بل ينبثق من جوهر قيمة الإنسان. الحراك الحضري الجديد ليس فكرة على ورق، إنه يحدث الآن: في مشاريع البنى التحتية، في صناديق الاقتراع، في الشوارع والحدائق، وفي الوعي الحضري الجديد الذي لا يقبل أن تُدار المدن بمنطق الاستثمار وحده. فالمدن التي تُبنى من أجل الإنسان أولاً هي التي يعيش فيها الجميع بكرامة، ولا يترك فيها أحد خلف الركب. ومن الرياض إلى نيويورك تتشكل دعوة مفتوحة عن فصل حضري جديد لا يدور حول من يبني أعلى برج، بل من يخلق أوسع أفق إنساني. إنها لحظة إعادة تعريف معنى المدينة، موطن الإنسان، الحياة والازدهار والتسامي. قد تختلف الآليات والسياقات بين الرياض التي تنفذ، ونيويورك التي تصوت، لكنها تلتقي في هدف واحد: استعادة المدينة من منطق السوق إلى منطق الحياة. وسد الفجوة بين إرث المخططين والمواطنين، بين الاستثمارات والاحتياجات، بين مسارات النمو ومسارات العدالة. وهذا الحراك ليس مجرد سياسة مؤقتة بل انتقال جذري من الرأسمالية الحضرية المنفلتة إلى عقد حضري جديد، يضمن السكن، والحركة، والنمو لكل ساكن. وهكذا، تلهم هذه التجارب مدناً أخرى تواجه نفس السؤال والحاجة - من مومباي إلى لاغوس، ومن طوكيو إلى بونيس آيرس- هل يمكن للمدن الكبرى أن تتحول من مساحات إقصاء إلى فضاءات شمول؟