يشهد القطاع الصحي العالمي اليوم مرحلة فارقة وغير مسبوقة؛ فمع تزايد معدلات الشيخوخة، وارتفاع انتشار الأمراض المزمنة، وتنامي تكاليف الرعاية بوتيرة تفوق قدرة الأنظمة الحالية على مواكبتها، أصبحت حتى أكثر منظومات الرعاية الصحية تقدمًا تواجه خطر فقدان استدامتها. وقد أثبت النموذج التقليدي للرعاية الصحية، القائم على علاج المرض بعد ظهوره، عاجزًا عن مواكبة التحديات الراهنة، إذ يترنح تحت ثقل تعقيداته وارتفاع تكاليفه المتزايدة. غير أن المملكة العربية السعودية اختارت مسارًا مختلفًا تمامًا؛ فبدلًا من الاكتفاء بإدارة الأزمات بعد وقوعها، تعمل المملكة على بناء منظومة صحية قادرة على استباق الأزمة والحد من آثارها قبل أن تبدأ. وانطلاقًا من رؤية السعودية 2030، تمضي المملكة بخطى ثابتة نحو تحول شامل في مفهوم الرعاية الصحية، بالانتقال من العلاج إلى الوقاية، ومن الاستجابة إلى التنبؤ، ومن الجهود المتفرقة إلى منظومة متكاملة توحّد الخدمات وتربط عناصر القطاع كافة ضمن رؤية واحدة تسعى إلى تحقيق صحة مستدامة للمجتمع. يقف الذكاء الاصطناعي في قلب هذا التحوّل النوعي. فعلى الرغم من الحديث المتكرر عن دوره في إعادة تشكيل مختلف القطاعات، إلا أن أثره الأعمق والأكثر إنسانية يتجلى في قطاع الرعاية الصحية. فعند استخدامه بمسؤولية، يمكن للذكاء الاصطناعي اكتشاف الأمراض في مراحلها المبكرة، وتصميم خطط علاجية مخصصة لكل مريض، ومساعدة الأطباء في اتخاذ قرارات سريرية أدق وأسرع. ومع ذلك، فإن جوهر هذا الابتكار لا يتمثل في استبدال الأطباء أو محللي البيانات، بل في تمكينهم من أدوات جديدة تعينهم على تقديم رعاية أكثر إنسانية وكفاءة. وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، عملت شركة M42 من خلال شبكة "ديافيروم" بالشراكة مع الجهات الصحية السعودية في مجال رعاية الكلى في 33 مدينة حول المملكة. ومن خلال هذه التجربة ، تعلمنا درسين أساسيين: أولاً، أن الوقاية ليست شعارًا يُرفع، بل نموذج عمل متكامل. وثانيًا، أن التكنولوجيا يجب أن تمكّن الإنسان لا أن تطغى عليه؛ فحتى أكثر الخوارزميات تطورًا لا قيمة لها ما لم تُسهم في تحسين حياة المرضى وتعزيز كفاءة مقدمي الرعاية. يمثل إطلاق "M42 السعودية" مرحلة جديدة تترجم مسيرة الشراكة الوثيقة الممتدة مع المملكة، وتُجسد التوسع من الخدمات التخصصية إلى التعاون الشامل على مستوى منظومة الصحة في مجالات الرعاية الدقيقة والوقائية والتنبؤية وتتمثل رسالتنا في تعميق هذه الشراكة ودعم مسيرة التحوّل الصحي في المملكة عبر الجمع بين الابتكار العلمي والرعاية المتمحورة حول الإنسان، للإسهام في بناء نظام صحي محلي مستدام ومستقل، يخدم أجيال الحاضر والمستقبل، ويُدار بكفاءات وطنية قادرة على مواصلة مسيرة التطوير. ترتكز هذه الشراكة على حقيقة بسيطة مفادها أن التقنية وحدها لا تصنع التحوّل الصحي، فالبيانات يجب أن تكون آمنة وموثوقة، وأن يتمتع العاملون الصحيون بالكفاءة والثقة، وأن تكون النتائج شفافة وقابلة للقياس. وفي المملكة العربية السعودية، بدأت هذه المبادئ بالفعل في تشكيل ملامح المشهد الصحي الجديد؛ فمن المنصات الرقمية للمرضى التي تتيح للأفراد الوصول الفوري إلى معلوماتهم الصحية، إلى أنظمة التشخيص المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تساعد الأطباء في اتخاذ قرارات سريرية دقيقة، تؤكد المملكة أن التحول الرقمي يمكن أن يسير جنبًا إلى جنب مع المسؤولية الأخلاقية والخصوصية الثقافية. ويظهر ذلك بوضوح في رعاية أمراض الكلى والأمراض الأيضية؛ فبينما كان التركيز في الماضي ينصبّ على التعامل مع المضاعفات بعد ظهورها، أصبح بالإمكان اليوم، التشخيص المبكر والتدخل الاستباقي بفضل الدمج بين الأنظمة الرقمية والمراقبة اللحظية والتحليل المدعوم بالذكاء الاصطناعي،كما بات المرضى قادرين على التفاعل مع بياناتهم الصحية، ومتابعة تطوّر حالتهم، والتواصل بسهولة أكبر مع فرق الرعاية. إنها تكنولوجيا وُجدت لتخدم الإنسان، تمكّنه من فهم حالته وإدارة صحته بوعي ومسؤولية، وتضعه في قلب المنظومة العلاجية بدل أن يكون مجرد متلقٍ للرعاية. فالوقاية في جوهرها لا تقوم على البيانات أو التقنيات وحدها، بل تنطلق أولاً من الإنسان. ولهذا فإن الاستثمار في الكفاءات السعودية من أطباء وباحثين وعلماء بيانات يشكل ركيزة أساسية في رؤيتنا. فالنظام الصحي المستدام لا بد أن يكون محلي القيادة وعالمي المعرفة، ولهذا نعمل من خلال برامج التدريب والبحوث المشتركة على تمكين الجيل القادم من المبتكرين السعوديين في قطاع الرعاية الصحية، ليواصلوا تطوير المنظومة وقيادتها نحو المستقبل، حتى بعد أن تتغير التقنيات وتتحول الأدوات. لا تنجح الشراكات من هذا النوع إلا عندما تُبنى على ثلاث ركائز أساسية: الانسجام في الأهداف، والإضافة في القيمة، والمساءلة في النتائج. فالأولويات الوطنية هي التي يجب أن تحدد الاتجاه والمسار، بينما ينبغي على الشركاء تحقيق نتائج ملموسة مثل تحسين جودة الرعاية، وتعزيز كفاءة الأنظمة، وتطوير المعرفة. وأن لا يقاس التقدّم الحقيقي بالإعلانات أو التصريحات، بل بصحة الناس وثقتهم في منظومتهم الصحية. إن ريادة المملكة العربية السعودية في هذا المجال تتجاوز حدودها الجغرافية؛ فإذا نجحت في إثبات أن الرعاية الوقائية القائمة على البيانات يمكن أن تتوسع سريريًا ورقميًا وأخلاقيًا، فستقدّم للعالم خارطة طريق جديدة لمستقبل الرعاية الصحية. وستتردد أصداء هذه التجربة من لندن إلى لاغوس، مؤكدةً أن الريادة الصحية يمكن أن تتكامل مع التعاون الدولي، وأن التكنولوجيا قادرة على خدمة الإنسان حين تُوجَّه برؤية واضحة وغاية نبيلة. إن مستقبل الرعاية الصحية لا يقوم على المفاضلة بين الابتكار والتعاطف، أو بين البيانات والكرامة الإنسانية، بل على تصميم أنظمة تجعل كلًّا منهما يعزز الآخر. وتُثبت المملكة العربية السعودية أن هذا التوازن ممكن التحقيق؛ فعندما تتكامل الوقاية والدقة والشراكة، تكون النتيجة مجتمعًا أكثر صحةً ومرونةً. إن ما تبنيه السعودية اليوم؛ هو نموذج يُلهم مستقبل الرعاية الصحية حول العالم. *الرئيس التنفيذي للعمليات في الشرق الأوسط وآسيا ل M42