بينما يُغرق الإعلام العالمي منصاته في تغطية الحروب والنزاعات سريعة الإيقاع والتوترات الجيوسياسية الاستعراضية بين القوى الكبرى، تتراكم في الخلفية العالمية أزمات عميقة قد تهدّد أسس الاستقرار البشري يومًا ما. والإشكال، أن هذه الأزمات، شبه منسية، ولا تحظى سوى بمتابعات إعلامية هامشية مع أن الأرقام تكشف عن حقائق موثقة تُنذر بأزمات كارثية عالمية آخذة في النمو. على صعيد النظام الدولي، يتجسّد التهديد الكبير في العجز المؤسسي مع فشل مجلس الأمن في إصدار قرارات ملزمة بشأن معظم النزاعات المسلحة خلال السنوات الأخيرة، كما في أوكرانيا وفلسطين والسودان، حيث أعاقت الدول الكبرى كلّ إجراء فعال. ولهذا لم يُصدر المجلس أي قرار ملزم بشأن 80 ٪ من النزاعات المسلحة خلال السنوات الخمس الماضية، بينما ازداد استخدام "حق النقض" بنسبة 300 ٪ مقارنة بمرحلة ما بعد الحرب الباردة. أما الأزمات الاقتصادية، فتكشف عن أرقام مذهلة منها حقيقة أن إجمالي الديون العالمية (العامة والخاصة) بلغت حوالي 251 تريليون دولار أميركي بنهاية عام 2024، أي ما يعادل أكثر من 235 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. كما يوجد اليوم أكثر من 61 دولة نامية تواجه أزمات ديون حادة، منها دول ضخمة سكانيًّا مثل مصر، وباكستان، ونيجيريا، وغانا، وإثيوبيا، في تكرار لأجواء ما قبل الانهيار المالي عام 1929. وتعاني الدول النامية التي تضم 85 ٪ من سكان العالم من 60 ٪ من ضغوط الديون العالمية، مع فوائد تجاوزت 50 ٪ من إيرادات أفريقيا وحدها. ففي أفريقيا جنوب الصحراء، يفوق الإنفاق على فوائد الديون الإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات ثلاثة أضعاف في بعض الدول. وهذه الأرقام لا تعني مجرد خلل اقتصادي، بل تعني تجويع ملايين البشر: ففي مالاوي مثلًا، ارتفعت نسبة الفقر إلى 71 ٪ من السكان بعد تحويل جزء كبير من ميزانية الغذاء لسداد القروض. وفي غانا خصصت الحكومة عام 2024 أكثر من 50 ٪ من إيراداتها لخدمة الديون الخارجية، مما أدى إلى تقليص الإنفاق على البرامج الاجتماعية، وليس الحال ببعيد في دول مثل زامبيا وكينيا. وكذلك الحال في بعض دول أميركا اللاتينية (البرازيل خصصت 42 ٪ من الإيرادات لخدمة الدين في 2024). أما الكارثة المناخية، فباتت أكبر من أن تُختزل في حرارة الأرض. فالهند سجّلت عام 2024 أكثر من 40 ألف حالة ضربة شمس بسبب موجات الحر. وفي بنغلاديش يُتوقع أن تفقد البلاد 17 ٪ من مساحتها بسبب ارتفاع مستوى البحر، ما يعني تهجير 30 مليون إنسان خلال العقدين المقبلين. وفي المقابل، شهدت أوروبا أكبر موجة جفاف منذ 500 عام، ما أدى إلى خسائر زراعية تجاوزت 20 مليار يورو عام 2023 فقط، وتوقعات بزيادة الخسائر بنسبة 66 ٪ بحلول 2050. وتحت هذه الكوارث، تشتعل حروب الموارد الصامتة. ففي الكونغو الديمقراطية حيث يأتي 70 ٪ من إنتاج الكوبالت العالمي، أودى الصراع منذ 1998 بحياة حوالي 7 ملايين إنسان، مع سيطرة الميليشيات المسلحة على معظم المناجم غير الرسمية. ولكن الإعلام الدولي يصمت، لأنه جزء من منظومة المستفيدين من هذه "الموارد الدموية" التي تغذي صناعة الهواتف والسيارات الكهربائية. وهذه الأزمات لا تتفاعل لوحدها، بل هي دوائر متشابكة: فانهيار النظام الدولي يضاعف أزمة الديون، والديون تضعف قدرة الدول على الاستثمار في التكيّف المناخي، والكوارث المناخية تولّد موجات هجرة وصراعات موارد، وصراعات الموارد تُغذي شبكات الاقتصاد غير الشرعي. ومع كل ذلك؛ ما يزال الإعلام الدولي -في أغلبه- يلاحق المصالح و"الحدث الصاخب" ويُهمل "الخطر الدفين". الخلاصة؛ إنّ عالمنا اليوم ليس أمام أزمات مؤجلة، بل في مواجهة انهيار متعدد المجالات ويحدث الآن، بصمت، وبأرقام صادمة.. وإن لم تتغير زوايا الرؤية العالمية (إعلامياً، سياسياً، اقتصادياً، إنسانيًّا) فلن يكون السؤال: "متى تقع الكارثة؟" بل "متى سيدرك العالم أننا أصبحنا داخلها؟". * قال ومضى: لا أعرف المستقبل.. ولكني أقرأ ملامحه كلّ يوم.