ارتجف قلبها وهي تطوق وجهه الصغير بكفيها، ذبلت كلماتها التي أعدتها لتقولها له لعله يكف ليفهم ليداري وجعه عنها كما تفعل! تعلم أنه يقاوم برودة راحتيها، كما تقاوم بريق عينيه! إنه البريق ذاته، ذلك الذي أسرها منذ أزمان.. تهمس لصغيرها الذي مازالت ملامحه تشع بتحد بالغ ومراوغة تلمحها من بين ابتسامته التي تتخيلها، تتمنى لو يجيبها على سؤالها المتخيل لمَ يا صغيري أخذت منه كل شيء؟ تنتفض وهي تشعر بامتلاء كفيها بسائل دافئ، تنفضهما بدهشة بالغة فيتقاطر عليها وفي المكان لتعي ما حدث بوجع بالغ، وشهقاته تدوي في أذنيها وهي تسمعها أخيرًا، حاولت أن تنعتق من ذاك الشعور البائس الذي يتلبسها ما إن تحدق في عينيه الصغيرتين.. حين ترى ذات الملامح، فيحتقن صبرها وتشتعل بالقهر! بالكاد استطاعت أن تفعل وتجر شعورها بقوة وتضم جسده الصغير ولا يزال كفها يقطر بدموعه وسؤاله يرن في أذنيها: لم لا يكون بابا معنا مثل كل الصغار؟ تحمله وتلقي رأسه على كتفها وهي تفز واقفة، وقد لدغها سؤاله، وأشعلت دموعه نار قلبها التي ظنتها خمدت بعد كل تلك السنوات مشت بعنف بخطوات سريعة ومشاعر مختلطة تعجز عن تحملها وهي ترى الكفة تميل لصالحه بفعل حنين صغيره له وهذا الحنين الغادر الذي يداهمها أيضاً؟! يجب أن تبقى قوية ليس عليه أن يهزمها مرات ومرات بعد أن انتهى كل شيء بينهما حال مجيء هذا الصغير.. كيف له أن يختار هذا الوقت بالذات الذي انتظراه سنوات ليعلن قراره المتواري عنها فقط وقد خبره الجميع؟! شعرت بكفه الناعمة تربت على عنقها ابتسمت من بين دموعها وأحبت حنانه الذي يأتي في حينه أحياناً، لكنها خذلها هذه المرة وهو يشير للعبته التي سقطت منه! التقطت سيارة الشرطة التي يفضلها من بين عشرت الألعاب التي أغرقته بها.. وعادت تحدثه وهل لا تعلم إن كان بصوت مسموع أم مكتوم كعادتها: أواه يا صغيري! لو تعلم أي قتال خضته معه ومع نفسي ومع الجميع ليكون معنا؟! أي تعلق كان يتلبسني لأجله ويعمي عني كل الأخطاء التي فعلها في حقي بدم بارد؟! جعلني أمشي على شوكه حافيه، ولا أملك إلا أن أنتزعها بقوة وصبر عجيبين، لم أكن ضعيفة يا صغيري، كنت قوية بما يكفي لأوقف كل هذا الهراء، وكان واثقًا أنني لن أفعل وهو يعلم سذاجتي المصطنعة بتعلقي به! وفي الوقت الذي كنت أمتلئ صبرًا لأجله وأزداد لنحتفل معًا بمجيئك للدنيا ظل يبحث عن مغامرة جديدة وحياة أخرى.. انتظرتك سنوات طوال يا صغيري، كنت حلمًا لم يعشه معي، وهو الغارق في أشياء لم أنتبه لها وربما لم أتوقعها منه، ظننته يعيش معي حلم قدومك للدنيا ليصبح أبًا وأصبح أمًا! كنت ساذجة بالقدر الذي ظننته ينشغل معي بحلمنا بك، وقد انشغل بذاته فقط! تنفضني صديقتي وأنا أرتمي بين يديها وأبكي حلمي: * ابحثي عن الأسباب وتوكلي على رب كريم. وتدسّ الثمن في جيبي وتدفعني لأبحث عنك في عيادات الأطباء وروائح المختبرات ووخزات الأبر، ومرارة الأدوية والأعشاب! تحملني صديقتي غصباً لألقي جسدي بين يدي امرأة تمسد جسدي بزيوت دافئة وتلقي في أذني وصايا كثيرة يتساقط بعضها من ذاكرتي حال خروجي من عندها! وأظل أختنق بتلك الروائح وهي توصيني أن أبقيها على جسدي يوماً كاملاً، وأتجرع مرارة أعشابها، وأكاد أختنق ببخورها الذي أداري روائحه عنه في بيت أمي! أمي الحبيبة التي تزيدني حماسة للصبر والبقاء، وتذيقني مرارة الانفصال قبل أن يكون! ولا تعلم -رحمها الله تعالى- أنني ذقت مرارة أشد مما كانت تحذرني. أي قهر تراني عشته حين تزامن الضدان معا! الحلم والخديعة؟ فما إن زرعك الله تعالى في أحشائي حتى لاح لي غدره! وجع الغدر الذي لم أعد أقوى حتى على ذكراه.. كان يمكنه أن يختار وقتاً غير ذلك الوقت المميز في حياتنا ويصارحني، ولعلي أتقبل منه حين أنشغل بك.. تشعر بثقل كتفها تجد صغيرها قد نام بوقع حنانها الذي هزته خطواتها كما كان صغيراً تهزه في الظلماء وحدها وتناغي براءته وهو يلتقط أصبعها ويدسه في فمه ضاحكاً، يعض أنملتها ويستمر في الضحك، تلثم براءته بدلال وسعادة طاغيتين، لكنها هذه المرة لم تشعر بلثته الناعمة تعض على أصبعها، كان غارقاً في نوم عميق ولا تزال قطرات دموعه تلمع على خديه! تتأمله بحنان وتبتسم براحة عجيبة لم تحسها منذ أزمان. تلقي جسده على ذراعيها وتضمه لصدرها وكأنها ملكت العالم بأسره، تهمس له وهي تسأله وتجيبه بإصرار: هل تراك يا صغيري لا تزال تبحث عن إجابة سؤالك في أحلامك؟ فلتحلم، ولكن معي يا أملي الذي تبرعم منذ كنت في أحشائي، وقد تشكل حلمي سريعاً بفضل الله تعالى ثم بوجودك في حضني، سأقاوم حنيني الذي يغدر بي وسأقتنع أنه لا يستحقني! سأكون ماما الدكتورة التي تفخر بها بين الصغار، وفخرك بي يطربني ويكفيني.