حين يُذكر سرطان الثدي غالبًا ما ينصرف التفكير إلى الأشعة والجراحات والعلاجات الكيميائية. وفي ظل الحملات الموسمية التي تُركز على أهمية الفحص المبكر والتشخيص السريع يغيب جانب آخر لا يقل أهمية عن البُعد الطبي: الحقوق القانونية للمريضة والأطر الأخلاقية والنفسية. فأكتوبر ليس فقط شهرًا ورديًا للتوعية بسرطان الثدي إنه مساحة تذكير بأن المريضة ليست مجرد ملف طبي بل إنسانة تمرّ بتجربة تُختبر فيها قدرتها على اتخاذ القرار وكرامتها وإيمانها وتوازنها النفسي. وفي عمق هذه التجربة يتقاطع القانون الطبي وأخلاقيات الطب والذكاء العاطفي كأركان لا غنى عنها لتقديم رعاية عادلة وإنسانية. من واقع ممارستي وتخصصي أستطيع أن أؤكد أن هذه القضية لا تُعالج فقط في غرف العمليات والعيادات بل أيضًا في مكاتب الإدارة وسياقات الثقافة المجتمعية. المرأة المصابة بسرطان الثدي ليست «متلقية» للعلاج فحسب بل هي إنسانة كاملة الأهلية، تملك قراراتها وتُسأل وتُناقش وتُستشار. لكن للأسف لا تزال القلة القليلة من الممارسات في المؤسسات الصحية تتعامل مع المرأة وكأنها غير معنية بحالتها الصحية فعليًا رغم أن الأنظمة الصحية في المملكة العربية السعودية تعترف صراحةً بحق المريضة في اتخاذ القرار العلاجي بنفسها ما دامت راشدة وبكامل الأهلية. وحتى عندما تُعطى المريضة حقها القانوني الكامل فإن مجرد توقيع على استمارة الموافقة المستنيرة لا يعني أنها مستعدة نفسيًا وعقليًا لذلك القرار. هنا يظهر البُعد الإنساني الذي كثيرًا ما يُهمل في الرعاية الصحية: الذكاء العاطفي. فالمريضة قد لا تكون بحاجة إلى مزيد من المعلومات بل إلى مساحة آمنة تسمح لها بأن تكون إنسانة خائفة مترددة منهكة وليست فقط صاحبة قرار عقلاني. إنها بحاجة لمن يمسك بيدها ويمّكنها لا ليملي عليها القرار بل ليصغي. في الذكاء العاطفي نسمي ذلك الاحتواء أو Holding Space وهو التزام أخلاقي يفتح مجال للمريضة لتشعر وتفكر وتبكي وتصمت وتعود لتسأل. هذه اللحظة جزء مهم من العلاج. من واقع عملي القانوني مع مريضات واجهن تضاربًا بين صدمة التشخيص ورغبات الأطباء وخوف العائلة أستطيع القول إن بعض الضرر عادة عندنا في السعودية لا ينتج من خطأ طبي مباشر -ولله الحمد- حيث إن الطب لدينا جداً متقدم بل يقع الضرر أحياناً من انعدام الحس الأخلاقي في التوقيت والأسلوب واللغة. هناك مريضات قررن الخضوع للعلاج وهن في قمة الحيرة فقط لأن الجميع استعجل القرار أو لأن أحدًا لم يسأل: هل تحتاجين وقتًا؟ هل هناك ما تخافينه؟ هل تودين الحديث مع مستشارة؟ الذكاء العاطفي ليس رفاهية في الطب بل هو واجب. واجب الطبيب ألا يُمارس الضغط وألا يستخدم لغة تقنية غامضة وألا يُهمّش الأسئلة العاطفية بحجة حرصه على مرضاه. بل عليه أن يُدرك أن القرار العلاجي حين ينبع من مريضة تشعر بأنها مسموعة ومحترمة وآمنة يكون أقوى وأكثر احتمالاً بالالتزام والنجاح. اليوم ونحن نُعيد صياغة أولوياتنا في ظل رؤية المملكة 2030 لا يكفي أن نحارب المرض بل يجب أن نحارب أيضًا كل ما يُضعف كرامة المريضة أثناء تجربتها الصحية. نحن بحاجة إلى ترسيخ ثقافة الحقوق الطبية من لحظة الاستشارة وحتى ما بعد التعافي وأن تكون الموافقة المستنيرة ممارسة حقيقية لا إجراءً شكليًا وأن نحمي خصوصية المرضى، ونُراعي مشاعرهم ونحترم قراراتهم. ومن الناحية الأخلاقية فإن الفريق الطبي مُطالب بتقديم معلومة واضحة خالية من التهويل أو التطمين المبالغ فيه تُراعي نفسية المريضة لكن دون انتقاص من حقها في معرفة الحقيقة واتخاذ القرار بناءً عليها. الشفافية وليس المجاملة هي حجر الزاوية في أخلاقيات الرعاية الصحية. يجب أن ننتقل من الحديث عن تطوير الخدمات الصحية فالطب لدينا يضاهي أشهر الأنظمة الصحية ويتفوق عليهم بكثير. لذلك يجب أن نركز الآن على تطوير الأخلاق في تقديم الخدمة الصحية لنحقق مجداً أكبر. وهذا يشمل تدريب الكوادر على الاستماع والتفاعل الإنساني واحترام الصمت وانتظار القرار بدل استعجاله. كما يشمل نشر الوعي القانوني لدى المريضات بأن الحق ليس فقط في التوقيع بل في الفهم والمشاورة والرفض أو القبول دون ضغط. سرطان الثدي قد يسرق من المرأة جزءًا من جسدها لكنه لا يجب أن يسرق منها صوتها أو إنسانيتها. وحين نعامل المريضة كامرأة كاملة لا حالة سريرية نكون قد بدأنا في تقديم الطب كما ينبغي أن يكون: علاجًا يتم بالإنسانية لا بالمشرط فقط. فبين القانون الطبي وأخلاقيات الطب وبين المهارة الطبية والذكاء العاطفي تُصنع العدالة الصحية وترتقي الخدمات الصحية. * محامية وأول سعودية متخصصة في القانون الطبي وأخلاقيات الطب