حرفيات يرسمن ملامح اقتصاد وطني جديد برؤية 2030 في عامٍ أعلنته المملكة رسميًا «عام الحِرَف اليدوية 2025»، بدت الأيادي السعودية - التي لم تجفّ عن النسيج والرّيشة والغزل والطين - وكأنها تستعيد أنفاسها بعد زمنٍ من الغياب. قرار مجلس الوزراء برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بتخصيص هذا العام للاحتفاء بالحرف اليدوية لم يكن خطوة رمزية، بل إعلانًا عن عودة العمل اليدوي إلى صدارة الهوية الوطنية والاقتصاد الثقافي، في وقتٍ أصبحت فيه الحرف أكثر من مجرد إرثٍ بصري إنها قيمة اقتصادية وثقافية جديدة في طريق رؤية 2030. منذ مطلع العام، تبنّت وزارة الثقافة هذه التسمية كمظلة وطنية شاملة تضمّ عشرات المبادرات والمشاريع التي تستهدف تمكين الحرفيين والحرفيات، وتحويل «صنعة الأجداد» إلى صناعة مستقبلية مستدامة. وتتكامل الجهود بين هيئة التراث التي تشرف على التوثيق والحماية، والمعهد الملكي للفنون التقليدية "ورث" المعنيّ بالتدريب والبحث، والصندوق الثقافي الذي يوفّر التمويل والمسرّعات، وشركة حِرف السعودية التي تتولى التسويق والتصدير لتصبح المنظومة اليوم واحدة من أنجح نماذج الاقتصاد الإبداعي في المنطقة. ووفق إحصاءات وزارة الثقافة وهيئة التراث، تجاوز عدد الحرفيين السعوديين المسجَّلين في قاعدة بيانات الحرف اليدوية 4900 حرفي وحرفية يمارسون أكثر من 50 حرفة متنوعة تشمل السدو والنسيج والفخار والجلود والعطور والخوص والنقش. ومن بين هؤلاء، 850 حرفيًا التحقوا خلال العامين الماضيين ببرامج تدريبية متقدمة لصقل مهاراتهم الفنية والتجارية. كما تشير تقارير هيئة التراث إلى أن 70 % من إجمالي العاملين في الحرف اليدوية نساء، وهو ما يعكس التحول الكبير في موقع المرأة السعودية داخل المشهد الثقافي والإنتاجي. منصة إلكترونية موحدة هذا التحول لم يأتِ من فراغ، فقد أطلقت هيئة التراث برامج دعمٍ فني ومادي متكاملة، تشمل توفير المواد الخام وبناء ورش حديثة وتجهيز معارض محلية ودولية، إلى جانب إصدار تراخيص "الحرفي المحترف" ضمن برنامج "بارع" الذي جرى دمجه مؤخرًا داخل الهيئة لتوحيد الجهود الوطنية. كما أن المعهد الملكي للفنون التقليدية "ورث"، الذي تأسس عام 2021، بات الذراع الأكاديمية لتخريج أجيال جديدة من الحرفيين عبر مسارات دراسية معتمدة في مجالات السدو، النسيج، الفخار، الحفر على الخشب، وصناعة العطور التقليدية. من جهته، واصل الصندوق الثقافي دوره التنموي بإطلاق «مسار الحرف اليدوية - نماء» الذي يقدم حوافز مالية غير مستردة للمشاريع الصغيرة الناشئة، تجاوز حجمها منذ بداية العام 14 مليون ريال، إضافة إلى توقيع اتفاقيات مع صندوق التنمية السياحي لدعم مسرعة نمو السياحة للحرف والهدايا التذكارية، التي خرّجت هذا الصيف 15 شركة سعودية ناشئة من أصل 560 متقدمًا. وفي المقابل، قدّمت شركة حِرف السعودية ورشًا تدريبية متقدمة للحرفيات في التسويق الرقمي والتصوير الاحترافي وجودة المنتج، ضمن شراكة استراتيجية مع القطاع الخاص. ولأن الرقمنة أصبحت لغة العصر، أطلقت وزارة الثقافة منصة إلكترونية موحدة لعام الحرف اليدوية تضم الهوية البصرية للمبادرة وأدوات التعريف بها، وتربط بين الحرفيين والمستهلكين، لتكون واجهة وطنية للتعريف بالحرف السعودية داخليًا وخارجيًا. كما شهد العام الحالي إدراج أكثر من 600 منتج حرفي من صنع 700 حرفي وحرفية على تطبيق "جاهز"، ضمن مبادرة مجتمعية تهدف إلى دعم التسويق المحلي للحرف السعودية. أما من الناحية الأكاديمية، فقد أطلقت الوزارة منحة بحثية وطنية لدراسة الحرف اليدوية من منظور اقتصادي وتقني، توثّق أثرها في التنمية المحلية، وتؤسس لأول قاعدة بيانات بحثية حول الاقتصاد الإبداعي السعودي. في قلب هذا المشهد الحافل بالمبادرات، تتجلّى قصص سعودياتٍ وجدن في الحرفة طريقا جديدا نحو التمكين. نساءٌ لم يكتفين بإحياء ما اندثر من الحرف، بل أضفن إليه لغة العصر. بعضهن يعجن الطين ليصنعن فنا، وأخريات يطرزن الجلود والعطور والخوص ليحوّلن التراث إلى تجارة، والعادة إلى علامة. فمن ورش الطين في القصيم، إلى مشاغل الجلود في المدينةالمنورة، وحتى معامل السدو في الشمال، وصولًا إلى جبال جازان حيث تولد المباخر والعطور من رماد الخشب - تكتب "بنات الصحراء الجدد" فصلاً جديدًا من الحكاية السعودية، حكاية اليد التي لم تنكسر أمام الآلة، بل سبقتها بخيالها وصبرها. أعادت للفخار صوته من مزرعة صغيرة في ضواحي القصيم، تتسلل رائحة الطين المشوي كل صباح من ورشة منزلية غيّرت حياة أمينة المطيري، أربعينية أم لخمسة أبناء، بدأت رحلتها من بقايا تراث أمها التي كانت تصنع أواني الماء والزير. تقول بابتسامةٍ متعبة: "كنت أراقب أمي وهي تمزج الطين بالماء وتقول: (الطين له روح إذا احترمته أعطاك أجمل شكل) كنت أظنها أسطورة، لكنني أدركت لاحقا أن الصنعة تَعلّم الصبر أكثر من أي مدرسة. بدأت أمينة قبل عشر سنوات بصناعة الفخار التقليدي في منزلها، مستخدمة طين الأودية القريب من بلدة "المذنب". كانت تجففه تحت الشمس وتغربله بيدها، حتى صار ملمسه ناعمًا كالدقيق. ثم التحقت عام 2018 بدورة متخصصة ضمن برنامج "بارع" التابع لهيئة التراث، فتعلّمت استخدام الأفران الكهربائية وتقنيات التزجيج الحديثة التي تمنح القطعة لمعانًا مقاومًا للحرارة. اليوم تنتج أمينة مزهريات ومباخر فخارية بتصاميم عصرية، وتبيعها عبر متجرها الإلكتروني. حصلت على ترخيص حرفي، وشاركت بمعرض "صنعة في السعودية". لكنها لا ترى نفسها تاجرَة، بل "حارسة إرث". تقول: "هدفي أن تتعلم بناتي الحرفة حتى لا تموت، لذلك أخصص كل خميس ورشة مجانية لبنات الحي. أقول لهن: الطين ما يخذلك إذا لم تخذليه. ورغم الدعم، تواجه أمينة تحديات مثل قلة توفر الطين المحلي النقي وغلاء الأفران الكهربائية. إلا أنها تواصل العمل وتقول "الفخار علمني أن كل كسرٍ يمكن أن يتحول إلى شكل أجمل. الحرفة حياة جديدة في أحد أحياء المدينةالمنورة، تلمع أيدي سارة الهندي وهي تمرر المقص على قطعة من الجلد البني، تُشكل بها حقيبة صغيرة نقشَت عليها بخيوط ذهبية جملة: صُنعت بحبّ المدينة. سارة، خريجة إدارة أعمال وأم لطفلين، وجدت نفسها خلال فترة الجائحة بلا عمل بعد إغلاق متجرها الصغير للملابس. لكنها لم تستسلم، واتجهت إلى صناعة الحقائب الجلدية مستوحية تصاميمها من نقوش النخيل والحرم النبوي. تقول: "أول حقيبة صنعتها كانت من بقايا معطف جلدي قديم لوالدي. غسلت الجلد ونقعته بالزيت وبدأت أقصّه بإبرة الخياطة. لم تكن مثالية، لكنها كانت نقطة البداية." تعلّمت سارة أسرار الجلد عبر دورات متقدمة في معهد الفنون التقليدية، ثم التحقت بمسرّعة نماء للحرف اليدوية التي تموّلها وزارة الثقافة والصندوق الثقافي، حيث تدربت على التسعير والتغليف والتسويق عبر الإنترنت. تتعامل اليوم مع موردين محليين في عسيروالقصيم لجلب الجلود النباتية المدبوغة صديقًا للبيئة، وتقول: "أنا لا أبيع حقيبة. أنا أروي حكاية عن جلدٍ شُفي من الخشونة وتحول إلى أناقة." سارة لا تعمل وحدها؛ فقد أسست ورشة صغيرة توظّف فيها ثلاث فتيات من ذوات الدخل المحدود، تُدرّبهن مجانًا على قصّ الجلد وتطريزه. تقول بفخر: "التمكين الحقيقي هو أن تعلّمي غيرك كيف يصنع بيده. أؤمن أن كل قطعة نُنجزها هي رسالة بأن الحرفة ليست بقايا ماضٍ بل فرصة حياة جديدة. لكنها تواجه تحديات مثل صعوبة استيراد الأدوات من الخارج، وارتفاع تكلفة الجلود النباتية، وتضيف مبتسمة: "أحيانًا أشعر أن الجلود أكثر عنادًا من البشر، لكنها حين تقتنع بيدك.. تطيعك." نساء الجبل يعطرن الجنوب في أعالي جبال جازان، يختلط عطر البُنّ برائحة العود. هناك وُلد شغف نجود الزهراني بالعطور. أرملة في الأربعين من عمرها، وأم لثلاثة أبناء، بدأت رحلتها بتجفيف الأعشاب الجبلية التي كانت جدتها تستخدمها في تعطير البيوت. تقول: " كنا نغلي زهور الريحان ونمزجها باللبان والمسك. كنت أظنها وصفات جدات، لكنني اكتشفت أنها علم كامل له أسرار ومقادير دقيقة. التحقت نجود بدورة متخصصة في صناعة العطور الطبيعية قدّمتها هيئة التراث بالتعاون مع جامعة جازان، وتعلمت فيها كيفية استخراج الزيوت العطرية واستخدامها في بخور ومباخر فخارية من صنع يدها. تعتمد على مواد خام محلية مثل خشب السمر، الزهر الجبلي، والورد الطائفي، وتشتري بقايا الأخشاب من النجّارين المحليين لإعادة تدويرها في صناعة المباخر. تسوق منتجاتها عبر " إنستغرام " وشاركت هذا العام في " معرض الحرف الوطنية "بالرياض، حيث نالت إشادة الزوار بابتكارها مباخر ذات تصميم تراثي لكن بزجاج مقاوم للحرارة وغطاء ذهبي صغير. تقول نجود بفخر: "أنا لا أبيع مبخرة، أنا أبيع ذاكرة بيتٍ سعوديٍّ لا تزال رائحته عالقة فينا. هي أيضًا عضوة في جمعية "سواعد الحرفيات"، وتشارك في تنظيم مهرجانات تراثية لتدريب الفتيات الصغيرات مجانًا. ورغم صعوبة توفير المواد الخام، وانقطاع الكهرباء المتكرر في قريتها الجبلية، تقول: "حين تنقطع الكهرباء، أضيء شمعة وأكمل العمل، فالحرفة بالنسبة لي عبادة وذاكرة وعزة. نسيج الصحراء علامة تجارية في شمال المملكة، وتحديدًا في منطقة الجوف، تُسمع خيوط النول وهي تطرق بإيقاع يشبه نبض الرمل. هناك تجلس "شيخة العنزي"، خمسينية بدوية الملامح، تلبس عباءتها السوداء المطرزة بخيوطٍ من صوف الغنم الذي جمعتْه بيديها. حولها تمتد ألوانٌ من الأحمر والبيج والأسود، تتقاطع كأشرطة الذاكرة. تقول شيخة وهي تُمرّر خيوط الصوف عبر نولها الخشبي: "هذي الخيوط تربطني بأمي وجدتي. ما بين خيط وخيط في قصة عمرها مئات السنين." بدأت الحكاية قبل أكثر من ثلاثين عامًا، حين كانت شيخة تراقب أمها وهي تنسج بيت الشعر البدوي، فتتعلم دون أن تدرك أنها تحفظ مهنة مهددة بالاندثار. بعد وفاة والدتها، قررت أن تُعيد إحياء الحرفة، لكن بأسلوب مختلف. التحقت بعدد من الورش التي نظمها المعهد الملكي للفنون التقليدية "ورث" وهيئة التراث في سكاكا، وتعلمت فيها تقنيات الصبغ الحديثة باستخدام الألوان النباتية بدل المواد الكيماوية، وكيفية تحويل السدو من منتج بدوي إلى منتج فني قابل للتسويق العصري. تقول: "تعلمت أن السدو مو بس خيمة أو بساط، ممكن يكون شنطة أو غطاء أو لوحة فنية. صرت أدمج بين التصميم التراثي والتغليف الحديث، حتى صار عندي زبائن من خارج المملكة يشترون منتجاتي أونلاين." شيخة أسست مشروعها الصغير ، وتمكنت بجهود ذاتية من فتح حساب عبر منصة "معروف"، ثم التحقت ببرنامج "نماء للحرف اليدوية" التابع للصندوق الثقافي، لتحصل على منحة مالية ساعدتها في شراء نول كهربائي حديث وأجهزة تغليف. تعمل اليوم مع ثلاث نساء من قريتها، تدربهن على تقنيات الغزل والنسيج، وتمنحهن أجورًا رمزية لتشجيعهن على الاستمرار. توضح شيخة أن الصوف الذي تستخدمه تجمعه من مربّي الأغنام المحليين في فصل الربيع، ثم تُنظفه يدويًا، وتغزله بخيوطٍ دقيقة، وتستخدم نباتات مثل الرمان والحناء والزعفران لصبغ الألوان الطبيعية. تقول بابتسامةٍ تفوح منها رائحة الصحراء: "كل لون في السدو له معنى.. الأحمر يعني الفرح، والأسود رمز للظلّ والأمان، والبيج لون الرمل. أنا أقول إننا ما نصنع بس قطعة نسيج، نصنع ذاكرة وطن. ولأنها تؤمن بدور الحرفة في التمكين المجتمعي، تطوعت شيخة لتدريب الفتيات في جمعية حرفة النسائية بالجوف، وقدمت ورشًا ميدانية في المدارس لتعريف الطالبات بأهمية السدو ضمن التراث السعودي. وتواجه تحديات كبيرة، أبرزها قلة الأيدي العاملة المدربة وصعوبة الحصول على صوفٍ محلي نقي في بعض المواسم. لكنها رغم ذلك تواصل، وتختم بقولها: "اللي يشتغل بالسدو يعرف أن كل خيط يوصلك لشيء أكبر من نفسك.. يوصلّك لجذورك".