في إحدى زوايا الحياة المهملة، حين لا يُرى الألم، وفي صمت الظهيرة حين يصبح ظلّ كلّ شيء مثله، تقطن امرأة خلف نافذة الانتظار، تحدّق بعينيها المتعبتين من كلّ شيء، وذلك الحنين المثقوب بالوجع يملأ تناهيد فؤادها، في ذلك المنزل الذي انسحب الزمان من جدرانه، حيث السكون يعمّ أركانه، ولا يُسمع سوى صوت رياح الخريف، فكلّ شيء يتساقط تِلو الآخر، وتبقى هي صامدة كأشجار الصنوبر. تعيش على ذكريات الماضي، تنتظر ابنها الذي أخذته مشاغل الحياة، هي تعلم ذلك، وتتفهم تلك المشاغل، لكن قلبها الذي ينزف دون صوت لا يعلم من الحقيقة إلا الحنين المتعب لرؤيته. تهمس لنفسها وقد اعتادت الحديث مع ذاتها، قائلة بصمت يملؤه الوجع: أتذكّرك في أيامٍ تمتلئ بالذكريات، ذلك الضجيج وتلك الأصوات التي كانت تملأ المكان، قلبي المفطور عليك، ودموعي تجري اشتياقًا لرؤيتك. بُني، أراك أصبحت رجلًا ناضجًا قويًا.. أتذكّر كم كانت فرحتي حينما أخبرتني الطبيبة بأنني حاملٌ بك؛ فقد كان يومًا يختلف عن أيّ يومٍ آخر، حملتك تسعة أشهر في بطني، فرِحةً بك تارة، ومتألمةً مرّاتٍ عدّة. كنتُ أتقلّب في نومي بصعوبة، وحتى حركتي كانت مرهقة، حتى جاءت الليلة التي لم أنم فيها قط، ورأيتُ الموت بعينيّ في ألم المخاض، حتى خرجتَ إلى الدنيا، مرّت الأيام والسنون؛ فكم سهرتُ لتنام، وكم تعبتُ لترتاح، وكان كل حلمي أن أراك سعيدًا. كلّما طلبتَ مني شيئًا صنعته لك بحبٍّ ومنتهى السعادة، وما زلتُ على ذلك حتى كبرتَ وتوظّفت، وأتى موعد زفافك، فكانت دموعي تختلط بين الفرح والفراق، ومرّ الوقت عليّ ببطءٍ حتى شعرتُ بأنك لست أنت، فقد أخذتك الحياة عني بعيدًا... بُني، لقد كبرتُ، وأنهكني المرض، وأتعبتني الوحدة. أتمنى رؤيتك، لا أريد سوى ساعةٍ من يومك، آنس بها في وحدتي، وتكفكف بها دموعي، وأشعل بها شمعةً في صدري تُنير يومي حتى ألقاك بالغد. بُني، أذكّرك بقول الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ فما زال هناك متّسع من الوقت؛ فاليوم أنا هنا، وغدًا لا أعلم أين أكون. فالجزاء من جنس العمل، أنت اليوم شابٌّ بصحّةٍ قادرٌ على العطاء، وغدًا ستكون أبًا أتعبته الحياة، ينتظر جزاء الوفاء.