الحنين.. مشاعرُ قلقةٍ تزداد وطأةً وكثافةً مع تقدّم العمر ومرورِ الأيام، إنه ألمٌ يُثبت وجوده كلّما احتالَ عليه الإنسان، فيتراءى له في خلَجاته ويكِزه عند فرحهِ وينتشي به عند اضطرابه، ويعلنُ عن نفسهِ مهما حاولَ تجاهله.. هو جرحٌ دامٍ لا يقتل ولا يندمل، تأبي الأيامُ والأماكنُ إلا نبشَه دون رحمةٍ ولا شفقة. الحنين.. وغدٌ يزورك في منامك بتفاصيل ظننت أنّك تجاوزتَها.. إنه ضيقٌ يوقظك من نومك بمشاعر مختلطة وقلبٍ مكلوم، فيه من الفوضى ما الله به عليم، يُفصح عن لغطه بدموعٍ محبوسة وأنينٍ مكتوم وتمتماتٍ كالوخز.. إنّه صرخةُ روحٍ فاتها الوقتُ وسرقها الأمل، وحبَسها الزّمن، ونوباتٌ فُجائيةٍ من أحلام اليقظةِ وسخريةِ الذكريات وتداعياتِ المعاني، تأخذُ بيديْك كطفلٍ ساذجٍ تائهٍ ضلّ طريقه وسْط ضجيجِ البشر ولغطِ الحياة، وتنتشلك من تسارعِ الأحداثِ وتغيّر الوجوه وفقد الأحبّة.. إنه بهجةٌ تُشعل ابتسامةً ساخرةً لا تلبث أن تنطفئ، وآمالٌ تحيا من جديد كلّما أوشكَت على الفناء. الزّمن يتجاوزُ جميع الناس، والتغيير يطال كلّ شيء، لذا فمن الحكمةِ أن يعيش الإنسانُ في دنياه حياةً مؤقّتة قصيرة، وأياماً معدودة غير ممدودة، وإلا قتلَه الحنين ومزّقه القهْر، وأتلفه الشّوق، وأهلكتهُ الرّتابة، وقضى عليه التذمّر والضّجر.. أتظنّ أنّ من الضروري أن يصيبَك الشّقاء والمرضُ وتنالَك نوائبُ العيشِ لكي تُعاني وتُكابد؟ كلّا يا عزيزي، يكفي فحسْب أن يصيبك الحنين!. يقول (دوستويفسكي) في إحدى روايته على لسان أحد أبطاله: «أتدري ما هو الحنين..؟ الحنينُ هو حين لا يستطيعُ الجسدُ أن يذهبَ حيث تذهبُ الرّوح». أتمنّى حقّا لمن يرجو لنا العمرَ المديد، أن يعيشَ لسنواتٍ طويلةٍ جدّا، حتى يعلمَ أن حياةً مديدة كهذه ليست أُمنية طيّبة ولا رجاءً صالحاً، حين يملؤه فراغُ الحنين، ويتيه به دوار الفقْد، وتنقلبُ آمالُه إلى اشتياق لماضٍ عتيق وأيامٍ تبعثرت وأشياء تغيّرت، وأشخاصٍ لا وجودَ لهم ولا أثر.. ثم يصبحُ غريباً كئيباً يقتله الأسى والضّجر، في أماكن ليستْ له، وأناسٍ لا ينتمي لهم، وزمانٍ يتجاهلُ وجوده، وأحداث هو فيها شخصيّةٌ هامشيّة.. وإلى أولئك الذين يمنعُهم الحنين والفقْد من نومهِم، أو يوقظهم منهُ قبل موعدِهم، أقول: أعانكُم الله وكتبَ أجرَكم وشفاكُم من علِلَكم، سوف تُصابون بالجنون قريباً!.