بعد نشري المقالة السابقة «التميّز... بين وعي الحوكمة وحلم الابتكار»، تفضّل عدد من الزملاء بالتعليق مشيرين إلى أهمية إيراد أمثلة تطبيقية توضّح وتدعم أثر الحوكمة على الابتكار وتميز الأداء المؤسسي. ولأن الهدف من المقال هو إثراء الفهم لا الاكتفاء بالمفهوم، فإن هذا المقال يأتي مكمّلًا للرؤية السابقة، وأن صح التعبير معززا النظرية بالتطبيق والمفهوم بالممارسة. لقد أثبتت التجارب أن الحوكمة حين تُوظّف لتحقيق الانضباط، فتلقائيا يتم تمكين الإبداع وهذا بدوره يُسفر عن الريادة، لكن الحوكمة حين تُفهم كقيدٍ تنظيمي، تفقد معناها وتظل طريقها نوكيا -على سبيل المثال- تربعت على قمة سوق الهواتف حينئذ، لكنها فشلت، عندما فشل نظام الحوكمة في مجاراة التحولات التقنية واستيعابها، وبدلا من الاستثمار في الابتكار، انصبَّ اهتمام الإدارة العليا على حماية الوضع القائم. حيث أصبح الهيكل الإداري عائقًا أمام التجريب السريع. فكانت النتيجة أن خسرت نوكيا أكثر من 80% من حصتها السوقية خلال خمس سنوات. أما كوداك، فقد اختارت حماية نموذجها التجاري التقليدي على حساب الإبتكار، رغم امتلاكها أول اختراع للكاميرا الرقمية، فقد سقطت نتيجة حوكمةٍ خائفةٍ من التغيير، وبدلا من تبني الإبتكار الذي كان سيقود السوق ككل، انصبَّ اهتمام الشركة على الأرباح قصيرة المدى من الأفلام التقليدية، فكانت النتيجة إفلاس الشركة عام 2012 بعد أكثر من قرن من الريادة، مع أن الشركة عادت عودةً خجولة من خلال كيان صغير، لا يكاد أن يُذكر. أما في حالة شركات بوينغ، فولكس فاجن، توشيبا، و إنرون، رأينا نماذج مختلفة للفشل الكامل في تطبيق الحوكمة، حين أصبحت الحوكمة وسيلة لتبرير الأخطاء و ليس لمنعها و الحيلولة دون وقوعها، حيث تحوّل النظام الرقابي إلى درعٍ يحمي المصالح الضيقة بدلا من حماية المصلحة العامة للشركة، فخسرت هذه المؤسسات ثقة عملائها وأسواقها. ففي بوينغ تم تهميش دور المهندسين لصالح قرارات تسويقية وربحية. وأما في حالة فولكس فاجن وتوشيبا وإنرون، فإن غياب الشفافية وضعف الرقابة الداخلية وتضارب المصالح بين الإدارة العليا والمدققين خلَق بيئة وثقافة عليا داخلية لا تعتمد على القيم الأخلاقية وهذا مثالٌ عالميٌ على الفساد في تطبيقات الحوكمة. وفي المقابل، وعلى النقيض من الأمثلة السابقة، للتدليل على أهمية الحوكمة الرشيدة، تقدم تويوتا ومايكروسوفت نماذج للحكمة المؤسسية حين تتحول الحوكمة إلى بيئةٍ داعمةٍ للتجريب والمساءلة الذكية. ففي حالة تويوتا، تعد الرقابة وسيلة تعلّم مستمرة لا عقاب، وفي حالة مايكروسوفت حولت الحوكمة ثقافة الصراع إلى ثقافة التعاون والتعلم، فأُطلقت ابتكارات كبرى مثل Azure وTeams وCopilot التي غيّرت وجه الشركة. وقد مثلتا تطبيق مميز للمنظمة المتعلمة أرجع لمقالي " المنظمات المتعلمة: من الجودة إلى الريادة العالمية". فكانت الحوكمة لديهما حارسًا للابتكار لا سجانًا له. وفي المملكة، لدينا أيضًا نماذج مشرّفة استطاعت أن تجعل من الحوكمة إطارًا للابتكار لا قيدًا عليه. تقدّم أرامكو السعودية مثالًا عالميًا على الدمج المتوازن بين الحوكمة الصارمة والإبداع التقني؛ فهي تمارس الشفافية والمساءلة كقيم تشغيلية يومية، إذ تُتخذ القرارات وفق منهجية "القيمة المضافة"، وتربط إدارة المخاطر بالبحث والابتكار في الطاقة النظيفة والتقنيات الصناعية. كذلك هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية (CST) حيث تحوّلت من جهة رقابية تقليدية إلى جهة تمكينيه للاقتصاد الرقمي، من خلال تبنّي حوكمة رقمية مرنة تتيح البيانات المفتوحة وتدعم روّاد الأعمال في مجال التقنية والذكاء الاصطناعي. كما تُعدّ الهيئة الملكية للجبيل وينبع مثالًا وطنيًا متقدمًا في تطبيق الحوكمة والابتكار؛ فقد نجحت الهيئة عبر التحول الرقمي والمشاريع الذكية وإدارة البنية التحتية بمفاهيم الإستدامة في تحقيق توازن دقيق بين الانضباط الإداري والمرونة الابتكارية. وقد حصدت عدة جوائز عالمية في مجالات المدن الذكية، والاستدامة، وإدارة المياه، وخدمة العملاء. وبذلك رسّخت الهيئة نموذجًا سعوديًا يُحتذى في الجمع بين التخطيط المحكم والابتكار المستدام. غير أن الصورة ليست دائما وردية في المشهد المحلي، فالمؤسسات التي اكتفت بالناحية الشكلية دون المضمون، فقد تحوّلت الجودة إلى مجرد تقارير، والحوكمة إلى نماذج جاهزة تُملأ دون إهتمام أو ربما دون وعي بمعناها، فهي بعيدة كل البعد عن التميز المؤسسي، فهناك مؤسسات لاتزال ترى في اللجان واللوائح غاية بحد ذاتها، لا وسيلة لضبط القرار أو تمكين الإبداع. إنها الصورة التي يتوقف فيها التطوير عند الورق، وتتراجع فيها النتائج رغم كثرة الإجراءات، التي تصبح في كثير من الأحيان عوائق للتميز. وهنا يصبح الخلل في الفهم ليس في الأدوات، أي حين تتحول الوسائل إلى أهداف كما ذكرت، فينحرف النظام عن غايته الأصلية. إن الكثير من تطبيقات الحوكمة والابتكار تنشغل بالمظاهر وتغفل الجوهر، فتتحول الوسائل إلى أهداف، بينما الحوكمة والابتكار هما وسائل للتميز والريادة، وليسا غاية بحد ذاتهما. ولهذا حين تُفهم الحوكمة كإطارٍ يمكّن الابتكار لا كقيدٍ عليه، تُثمر الممارسة لا الشعارات، ويصبح النظام أداة تقدم لا عائقًا أمامه. فجوهر التميّز المؤسسي لا يقوم على عدد اللوائح ولا على حجم التقارير، بل على وضوح العلاقة بين الغاية والوسيلة (أي أن يبقى التميز والريادة هدفاً، وأن تظل الحوكمة وسيلة ذكية لتحقيقهما). إن مؤسساتنا الحكومية أمام فرصة تاريخية اليوم لإعادة صياغة مفهوم الحوكمة بما يتناغم مع روح رؤية المملكة 2030 التي دعت إلى بناء مؤسسات فعّالة تتعلم وتبتكر وتتحمل مسؤوليتها بشفافية. لقد أصبح من الضروري أن تتكامل الأطر التنظيمية مع الثقافة الابتكارية لتتحول الحوكمة من منظومة رقابة إلى منظومة تطوير وتمكين. ولعل إنشاء المركز الوطني السعودي للتميّز يمثل الخطوة الاستراتيجية في هذا الاتجاه؛ إذ يمكن أن يساعد في تشكل المظلة الوطنية التي توحّد المعايير، وتنسّق الجهود بين الهيئات الرقابية والتنموية، وتربط التميز بالحوكمة ضمن منظومة واحدة تُعزّز الشفافية وتدعم الإبتكار في القطاعين العام والخاص. إن وجود هذا المركز لن يكون إضافة شكلية، بل سيكون رافعة فاعلة لمعالجة الآثار السلبية الناجمة عن ضعف الترابط بين السياسات، وتكرار الأدوار، وتضارب المسؤوليات بين الجهات. فحين يعمل الجميع ضمن إطار موحّد للتميز المؤسسي، تتكامل الوسائل وتتحقق الغايات، وتتحول الحوكمة من عبءٍ تنظيمي إلى أداة وطنية تدعم الريادة السعودية في الحوكمة والتميز معًا.