شهد التعليم في المتاحف تحولاً جذرياً خلال القرن العشرين الميلادي إذ انتقل من النموذج التقليدي القائم على حفظ المعلومات ونقل المعارف كحقائق ثابتة، إلى نموذج بنائي Constructivist عند بياجيه وفيغوتسكي. حيث يركز على دور المتلقي في بناء معرفته بفاعلية من خلال تجاربه وتفاعلاته مع العمل الفني بدلاً من أن يكون متلقياً سلبياً للمعلومات. وفي ضؤ النظرية البنائية Constructivism التي طرحها جورج هاين، يُعدّ التعلّم في المتحف من أنجح أشكال التعليم البنائي إذ يتيح للطالب بناء معرفته بنفسه، والتعبير عن فهمه الخاص للموضوعات المعروضة، لأنه شكل من أشكال التعلّم الذي يعتمد على «الاكتشاف لا التلقين» مما يجعله أكثر تأثيراً واستمرارية في ذهن الطالب. إنّ مواجهة الطلاب مع المعروضات المتحفية غير المألوفة هي قلب التجربة التعليمية في المتحف. حين يرى الطالب عملاً فنياً لا يفهمه فيبدأ بالتساؤل والبحث ويتحول من «متلقٍ سلبي» إلى «فاعل معرفي» يسعى لفهم الجمال والمعنى وراء العمل الفني. هذا النوع من التعليم لا يكتفي بتوفير المعلومات للطالب لكنه يشجعه على التأمّل والتفكير فيصبح إنساناً واعياً ومتدبراً. وقد أسهمت الباحثة إيلين هوبر غرينهيل في تأسيس هذا الاتجاه من خلال نقدها للمفهوم الكلاسيكي للمتحف الذي كان يقدّم الفنون كمعرفة جاهزة. وتؤكد على أنّ المتحف يجب أن يتحول إلى "مكان تعليمي تفاعلي" حيث يصبح الزائر مشاركاً في عملية تأويل المعروضات عبر ثقافته وخبراته لا مجرد مُتلقّ سلبي للمعرفة. وبناء على ذلك، وانطلاقاً من إيماني بدور التعليم المتحفي في تطوير مهارات عدة لدى الطلاب، أدعو إلى إدراج المتاحف كمقرر أساسي في التعليم العام السعودي. إنّ تصميم مقرر بعنوان «التعلّم في المتحف» ضمن المناهج الدراسية الأساسية يتضمن زيارات دورية، ومهام بحثية، ومشاريع فنية تطبيقية، سيعيد تعريف العلاقة بين الطالب والمعرفة. وبدلاً من أن يَنظر الطالب إلى المتحف كرحلة ترفيهية، سيصبح المتحف «منهجاً تطبيقياً» يُدَرّس فيه التاريخ والفنون البصرية والعلوم من خلال المعاينة المباشرة. فيتعلم الطالب من سنواته المدرسية الأولى من خلال الملاحظة، والمقارنة، والتحليل، والبحث الميداني. هذه الطريقة تعزز فهم الطالب، وتربط المنهج التعليمي بالواقع، وتمنح المتعلّم إحساساً بالمسؤولية تجاه ثقافته وتاريخ وطنه. وبذلك يصبح المتحف بيئة مثالية لترسيخ مهارات القرن الحادي والعشرين الأساسية كالتفكير النقدي والإبداعي، وحل المشكلات، والقدرة على التواصل بفاعلية، والعمل كجزء من فريق في بيئات متنوعة، والقدرة على التكيف مع التغيرات، والتعلّم المستمر مدى الحياة، والتنظيم الذاتي، وتنمية ذائقة جمالية تتجاوز حدود المقرر الدراسي. وهو ما يجعل تحويله إلى مقرر دراسي خطوة منطقية في مسار التعليم الحديث. كما أنّ هذه الخطوة ستدفع المعلمين إلى إعادة التفكير في أدوارهم التعليمية، وتبنّي استراتيجيات تعلّم قائمة على الخبرة، والتعلّم القائم على المشروع، والتكامل بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، وسيُعدّ جزءاً من سياسة تربوية ترتبط بالقيم العالمية والتنمية المستدامة. إنّ النماذج الغربية في هذا المجال تعتبر نماذج مُلهمة سواء في أسلوبها التعليمي أو في «فلسفتها الثقافية» التي تنظر إلى المتحف كمؤسسة اجتماعية تشارك في تكوين الوعي العام. ففي بريطانيا والولايات المتحدة تُدرَج زيارات المتاحف ضمن المناهج الرسمية كجزء من تقييم الطالب، ويُطلب من التلاميذ كتابة تقارير تأمّلية حول ما شاهدوه. وفي بعض المدارس يمتد المنهج المتحفي إلى مشاريع بحثية تعاونية بين المتاحف والمؤسسات التعليمية بحيث يصبح الطالب باحثاً صغيراً في التاريخ أو الفنون البصرية أو البيئة. هذه الممارسات نجحت في تحسين التحصيل الدراسي، بل وساهمت في تعزيز التفكير النقدي، والذوق العام، والمسؤولية الثقافية لدى الجيل الجديد. وفي المقابل مازالت التجربة السعودية في بداياتها فيما يتعلق بالتعليم المتحفي أو تعليم الفنون عبر المتحف. حيث يواجه تحديات أساسية أهمها ضعف الربط بين المؤسسات التعليمية والمؤسسات الثقافية، وغياب المتاحف الفنية المستقلة حيث إنّ معظم المتاحف في المملكة العربية السعودية تركز على التراث والآثار أكثر من الفنون البصرية المعاصرة، مما يجعل الوعي بأهمية الفنون والتعليم الفني في المتاحف محدوداً نسبياً في المجتمع. ومع ذلك فإن الاهتمام المتزايد من قبل المملكة بإنشاء متاحف جديدة يُمثّل فرصة لبناء نموذج سعودي للتعليم المتحفي يمكن أن يستفيد من التجربة الغربية دون أن يكررها. و يعتبر هذا التوجه أيضاً فرصة استراتيجية مهمّة يجب استثمارها خصوصاً في ظل رؤية 2030 التي جعلت الثقافة والتعليم ركيزتين للتنمية الوطنية. إذ يعزز التكامل بين وزارتي الثقافة والتعليم، ويحوّل المتاحف إلى مختبرات تعليمية تربط الطلاب بتاريخهم وتراثهم وهويتهم، وفي الوقت نفسه تتسع مداركهم على الفنون العالمية. ويأتي إعلان وزير الثقافة السعودي إنشاء جامعة الرياض للفنون كنموذج مُتقدم للتكامل بين التعليم والثقافة والفنون موفّراً الفرص للتعلّم الإبداعي المرتبط بالتراث والهوية الوطنية. ويُعدّ إنشاء الجامعة فرصة ينبغي استثمارها في إطلاق برامج دراسات عليا متخصصة في المتاحف وإدارتها، تُسهم في تأهيل الكفاءات الوطنية وسدّ احتياجات سوق العمل في هذا المجال، توازياً مع التوسع في إنشاء المتاحف الجديدة في المملكة العربية السعودية. إنّ الاستثمار في التعليم المتحفي يعيد تشكيل الوعي التعليمي ليصبح أكثر تفاعلاً مع الواقع الثقافي والاجتماعي السعودي. وعندما تتضافر جهود المتحف مع المدرسة، تتسع حدود التعلّم ليصبح ممارسة مجتمعية تساهم في بناء الإنسان السعودي وصياغة هويته المعاصرة.