يشهد العالم تصاعدًا في سباق الهيمنة على تقنيات الذكاء الاصطناعي بين القوى الكبرى، في مشهد يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة وسباق الفضاء، لكن بطبيعة مختلفة من حيث السرعة والنطاق والتأثير. فالسباق الجديد لا يدور حول السيطرة على الفضاء أو التفوق العسكري فقط، بل يمتد إلى الاقتصاد، والتعليم، والصناعة، والأمن، وحتى صياغة القيم المجتمعية، ما يجعله سباقًا بلا خط نهاية واضح ولا قواعد دولية منظمة. مبدأ التفوق وتتبنى الولاياتالمتحدة نهجًا قائمًا على المنافسة المطلقة، وفقًا لوثيقة «الفوز بالسباق: خطة عمل الذكاء الاصطناعي الأمريكية»، التي تضم أكثر من 90 إجراءً حكوميًا لتعزيز التفوق التقني. ويعتمد هذا التوجه على فكرة «الرابح يأخذ كل شيء»، ما يعيد ملامح التفكير في حقبة الحرب الباردة، لكنه يصطدم بواقع تكنولوجي معقد يتطلب تعاونًا عالميًا لضمان الاستخدام الآمن والمنظم للتقنيات الناشئة. ويرى محللون أن تصوير الابتكار كسباقٍ عالي المخاطر يعزز التوترات الجيوسياسية ويقوّض فرص التعاون الدولي الضروري لتنظيم الذكاء الاصطناعي. سباق الفضاء وتاريخيًا، قاد التنافس بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي إلى إنجازات علمية كبرى، أبرزها الهبوط على القمر وتوقيع معاهدة الفضاء الخارجي عام 1967، التي نصت على أن الفضاء ملك للبشرية جمعاء. إلا أن الخطاب الحالي حول الذكاء الاصطناعي يتجه نحو القومية التقنية بدل الشراكة العلمية، وهو ما ظهر في تصريحات أمريكية حول «العودة إلى القمر قبل الصين»، في دلالة على عودة منطق السيطرة القومية على التكنولوجيا. غياب خط النهاية ورغم تشابه الأجواء التنافسية مع الماضي، فإن سباق الذكاء الاصطناعي يختلف في طبيعته، إذ لا يملك أهدافًا نهائية يمكن قياسها، مثل الوصول إلى القمر. فالتطور في هذا المجال يحدث بصورة تراكمية مستمرة، دون معايير واضحة للفوز، خصوصًا مع الجدل القائم حول الذكاء الاصطناعي العام (AGI) الذي يفترض أنه يعادل القدرات البشرية، لكن تعريفه ما زال غامضًا. ويؤكد باحثون أن الابتكار هنا لا يتوقف عند إنجاز بعينه، بل هو عملية مفتوحة من التحسين المستمر. السياسات الدولية وتسعى القوى الكبرى إلى صياغة نماذج حوكمة متباينة. حيث يركز الاتحاد الأوروبي على حماية الخصوصية من خلال تشريعات صارمة مثل اللائحة العامة لحماية البيانات، بينما تمزج الصين بين التوسع الصناعي والرقابة المركزية. أما الولاياتالمتحدة فتعتمد على القطاع الخاص كقوة دافعة، لكنها تفتقر إلى سياسة تنظيمية موحدة. وقد أدت القيود الأمريكية على تصدير الرقائق عام 2022 إلى نتائج عكسية، حيث سارعت أوروبا لإقرار «قانون الرقائق» عام 2024، بينما واصلت الصين تطوير نماذجها عبر شركات مثل «DeepSeek». ويُتوقع أن يؤدي هذا التشتت إلى مزيد من الانقسام بدلًا من بناء نظام عالمي مشترك للحوكمة التقنية. الجنوب العالمي ولم تعد المنافسة التقنية حكرًا على القوى الكبرى. فدول الجنوب العالمي بدأت بتبني نماذج حوكمة رقمية محلية، مثل سياسات توطين البيانات في كينيا ورواندا، وإستراتيجيات الهند والبرازيل التي تركز على الزراعة والرعاية الصحية. وهذه المبادرات تعبّر عن رغبة متنامية في تحقيق السيادة الرقمية، لكنها تصطدم باستمرار هيمنة الشركات الغربية الكبرى على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي. ملامح التعاون الممكن ويؤكد خبراء أن الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي غير ممكن بمفهومه التقليدي، وأن التعاون الدولي هو السبيل الوحيد لتحقيق نتائج آمنة ومستدامة. فالذكاء الاصطناعي الفعّال يعتمد على بيانات متنوعة وممثلة لجميع الثقافات، ما يجعل الشمولية والتعاون ضرورة إستراتيجية. وتُعد مشاريع مثل الإنترنت ونظام تحديد المواقع (GPS) أمثلة على نجاح التعاون الدولي في تحويل الابتكار العسكري إلى أدوات تنموية شاملة. بناء نظام بيئي عالمي ويتطلب تحقيق توازن عالمي في الذكاء الاصطناعي إنشاء مؤسسات دولية تشجع على مشاركة الدول النامية والمجتمعات المهمشة في صناعة القرار. وتبرز مبادرات مثل سياسة بيانات الاتحاد الإفريقي لعام 2023 ومجموعة عمل الذكاء الاصطناعي في رابطة آسيان لعام 2025 كمحاولات لتبادل البيانات عبر الحدود وتعزيز الابتكار الجماعي، في خطوة نحو حوكمة أكثر عدالة وشمولًا. الذكاء الاصطناعي أبرز المميزات 1. دفع الابتكار العلمي والتقني بوتيرة غير مسبوقة. 2. تحسين الخدمات العامة كالصحة والتعليم عبر التحليل الذكي للبيانات. 3. تعزيز الكفاءة الاقتصادية وتقليل الهدر في الموارد. 4. دعم حلول المناخ والطاقة المستدامة باستخدام النماذج التنبؤية. 5. خلق فرص عمل جديدة في مجالات البحث والتطوير والتقنية. أبرز المخاطر 1. تفاقم الانقسام الجيوسياسي نتيجة غياب معايير حوكمة موحدة. 2. هيمنة الشركات العملاقة على الأجندة التقنية وتهميش الدول الصغيرة. 3. ضعف الشفافية والمساءلة مع تسارع التطوير وغياب الرقابة. 4. اتساع فجوة عدم المساواة الرقمية بين الدول. 5. عسكرة الذكاء الاصطناعي وتحويله إلى أداة صراع جديدة بدل التنمية.