لم يعد القطاع الخاص في المملكة مجرد تابعٍ للإنفاق العام أو مستفيدٍ من السياسات الحكومية، بل أصبح اليوم مشاركًا في صناعة القرار الاقتصادي ومحركًا رئيسيًا للتحول الوطني. فمنذ إطلاق رؤية السعودية 2030، انتقلت الدولة من مرحلة "دعم السوق" إلى مرحلة "تمكين السوق"، لتتحول العلاقة بين القطاعين العام والخاص من علاقة تبعية إلى علاقة شراكة وصناعة متبادلة للقيمة. لقد أدركت القيادة السعودية مبكرًا أن بناء اقتصاد قوي لا يقوم على الثروة النفطية وحدها، بل على إطلاق طاقات المجتمع وتمكين رأس المال الوطني من المنافسة والإبداع. ولذلك أُطلقت سلسلة من التحسينات غير المسبوقة التي أعادت تشكيل بيئة الأعمال، بدءًا من تسهيل تأسيس الشركات وتقليص الإجراءات البيروقراطية، وصولًا إلى فتح قطاعات جديدة أمام الاستثمار المحلي والأجنبي. ومع برامج مثل "منشآت" و"كفالة" و"سند" وبرنامج تحفيز القطاع الخاص، تحولت الفكرة من دعمٍ محدود إلى بنية مؤسسية متكاملة لتمكين الريادة وتحرير الابتكار. وتظهر نتائج هذا التحول بوضوح في الأرقام. فقد وصلت التسجيلات التجارية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى نحو 1.6 مليون بنهاية عام 2024، وارتفعت إلى 1.68 مليون في الربع الأول من عام 2025، ما يعكس بيئة أعمال أكثر ديناميكية وقدرة على توليد فرص جديدة. كما ارتفعت مساهمة الأنشطة غير النفطية في الناتج المحلي إلى أكثر من 53 في المئة، وهو ما يؤكد انتقال المملكة إلى مرحلة الاقتصاد المنتج الذي تقوده المعرفة والابتكار. إلى جانب ذلك، برزت طفرة في الاستثمارات الجريئة التي تجاوزت 0.9 مليار دولار في النصف الأول من عام 2025، مدفوعة بتوسع صناديق رأس المال المغامر ونمو الشركات التقنية الناشئة. لقد أصبح رأس المال السعودي اليوم أكثر جرأةً واستقلالية، يقود تحولات حقيقية في مجالات التجارة الإلكترونية، والتكنولوجيا المالية، والطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، مما جعل المملكة لاعبًا محوريًا في خريطة ريادة الأعمال الإقليمية. وفي البعد الاجتماعي، أسهم تمكين القطاع الخاص في إعادة تعريف مفهوم العمل ذاته. فالشباب والمرأة باتوا في مقدمة مشهد الإنتاج والابتكار، حيث ارتفعت مشاركة المرأة السعودية في سوق العمل إلى 34.5 في المئة بعد أن كانت دون 20 في المئة قبل عقدٍ واحد فقط. إن هذا التحول لا يعكس نموًا في الأرقام فحسب، بل نقلة ثقافية نحو رؤية تعتبر العمل الخاص ركيزة وطنية في بناء المستقبل. كما بدأ القطاع الخاص يضطلع بدورٍ متزايد في دعم المسؤولية الاجتماعية، وتنمية المجتمعات المحلية، والمساهمة في تحقيق التوازن التنموي بين المناطق. إلا أن الطريق نحو الريادة الكاملة ما زال يتطلب تعزيز التكامل بين القطاعين العام والخاص، وبناء شراكات استراتيجية طويلة الأمد في مجالات الصناعة والسياحة والاقتصاد الرقمي والرعاية الصحية. فالمملكة اليوم تتجه نحو نموذجٍ جديدٍ من التنمية، لا تكتفي فيه الدولة بدور الممول، ولا يقتصر فيه القطاع الخاص على دور المنفذ، بل يلتقي الطرفان في مساحةٍ واحدة لصناعة القيمة المحلية وصياغة السياسات التي تضمن استدامة النمو وتنويع مصادره. إن التحول من "دعم الدولة" إلى "صناعة الدولة" ليس مجرد انتقالٍ اقتصادي، بل نقلةٌ في الوعي التنموي. فحين يصبح المستثمر والمبتكر والريادي جزءًا من صناعة القرار الاقتصادي، فإن الدولة لا تبني اقتصادًا فحسب، بل تبني مجتمعًا منتجًا قادرًا على صياغة مستقبله بنفسه. بهذه الروح، يواصل القطاع الخاص السعودي ترسيخ مكانته كأحد أعمدة القوة الوطنية الجديدة، وصانعًا أساسيًا لاقتصاد الدولة الحديثة التي تُصدّر الريادة وتشارك في تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي الجديد بثقة وفاعلية متزايدة.