من المواقف ما لا ينبغي أن يتذكر، بل حقه نسيانه والمضي قدمًا، كبعض الملحوظات البسيطة التي لا يخلو الإنسان من أن يسجلها على من يخالطه، سواء داخل الأسرة، أو في العمل، أو في المعاملات ونحو ذلك، ومن يسجل كل ذلك للناس ولا ينسى شيئاً منه، كأنه يكلفهم الكمال والعصمة، وذلك عكس ما جبلوا عليه.. كل منا له ذكريات إيجابية، وأخرى مريرة، لم تزل تمثل في ذاكرته في بعض الأحيان، وكل منا قد طوى النسيان كثيراً من المواقف التي مر بها، ولم يعد يلقي لها بالاً، ومن التذكر ما يوجبه الوفاء وحفظ العهود، ومنه ما لا بد منه للحزم وأخذ الحيطة والحذر، ومنه ما هو مجرد تنطع وتضخيم لما لا يستحق التضخيم، وكذلك النسيان منه ما هو إخلال بالوفاء وهضم لحق المحسن، ومنه ما هو إهدار لتجارب الحياة، وإهمال لما أخذ من العظات والعبر، ومنه ما هو رحمة للإنسان؛ لأنه يبعد عن ذهنه اللحظات الأليمة التي لو بقيت ماثلةً في النفس لعكرت الصفو، وهذا النوع من النسيان لو لم يجبل عليه الناس لم تنحسر عن قلوبهم غيوم الأحزان ولو تقادم عهدها، فمن الجدير بالإنسان أن يفرق بين أصناف التذكر وأصناف النسيان، وأن يحاول أن يتعامل مع تذكر المواقف والأحداث ونسيانها على حسب ما يصب في مصلحته، وأن يكون ما يتعاطاه من ذلك موزوناً بميزان الإقساط والإنصاف، نابعاً من العقل المستبصر بالشرع، ومراعًى فيه ما يستحسن في الأعراف، وتمليه القيم النبيلة، فلا تجنح به العواطف إلى ما لا يحمد عقباه، ولي مع التذكر والنسيان وقفات: الأولى: صنائع الجميل تستحق التذكر بحسب الإمكان، ولا يسوغ نسيانها أو تناسيها، وأعلاها وأشملها نعم الله تعالى على عباده بجميع أصنافها، الظاهرة والباطنة، المادية والمعنوية، الدينية والدنيوية، وقد تكرر الأمر بذلك في القرآن الكريم بعبارة تهتز لها قلوب الشاكرين، ألا وهي: (اذكروا نعمة الله عليكم)، موجهةً إلى هذه الأمة ومن قبلها من الأمم، وذكر نعمة الله تعالى تتضافر عليه القلوب المقرة به وبربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته العلى، الشاكرة لأنعمه، والألسنة الناطقة بذلك آناء الليل وأطراف النهار، والجوارح التي تأتمر بما يستوجبه الشكر من الانقياد، ثم من لا يشكر الناس لا يشكر الله تعالى، فيعتني الإنسان بتذكر أيادي الذين أسدوا إليه الإحسان مهما كان نوعه، وفي مقدمة من يذكر صنيعه الوالدان، فلا يدري الإنسان بم يبدأ وبم يثني من أيادي والديه عليه؟ ومن أشنع أنواع الإخلال بالوفاء أن ينسى الإنسان والديه، ويكون ذكرهما -حيين أو ميتين- هامشياً عنده، قد ينشط له أحياناً وقد تزدحم أولوياته، فيسقطه، ومن الأيادي التي يجب علينا تذكرها أيادي قادة البلاد، ومن عمر الوطن، واستتب الأمن بفضل الله تعالى ثم بجهودهم، فلهم فضل عظيم، لا يسوغ نسيانه، ولا الغفلة عنه، ولسان كل منا ينبغي أن يخاطبهم بقول القائل: ولست بناس منكم فضل منة على ولكني بها الدهر شاكر ثم لكل إنسان أقرباء وأصدقاء وزملاء ومعارف لا يسعه إلا تذكر ما رأى منهم من صدق المشاعر، والصدق في المواقف، وكلمة طيبة، ووقفة معه في موقف يحتاج إلى وقفة المخلص، ونصيحة أضاءت الدرب، وأعانت على جلب مصلحة أو درء مفسدة. الثانية: من الممكن -بل من الضروري أحياناً- تجزئة النتيجة الواحدة من التجارب الناشئة عن التعامل مع الناس، فتحدد من أجزائها ما يستحق النسيان فتضعه في خانة المنسيات، وتحدد منها ما يستحق التذكر فلا تغفل عنه؛ لأن قاعدة الحزم تقتضي أن لا تغفله، فلو تعاملت مالياً مع إنسان عزيز عليك، وبان لك بالتجربة الصادقة الفاحصة أنه ممن لا ينجح معه التعامل المالي، وأن الذي حصل ليس مجرد هفوة، بل هو نابع من طبيعته، أو عملت بمشورة صديق فظهر لك أنه من لا يصيب المحز في تقدير الأمور ووزنها بميزانها، وأنه جازف بما رسم لك تسوراً منه على ما ليس من مجاله، ففي مثل هذه الحالات يمكنك تشطير هذه التجربة، فتنسى لصاحبك خطأه ومجازفته وتقصيره، لكن لا ينبغي أن تنسى الجانب الواقعي المتمثل في عدم صلاحيته لتكرار التجربة معه، فمن الحزم أن لا تسير في الدرب الذي جربت فيه العقبات والعثرات. الثالثة: من المواقف ما لا ينبغي أن يتذكر، بل حقه نسيانه والمضي قدماً، وذلك كبعض الملحوظات البسيطة التي لا يخلو الإنسان من أن يسجلها على من يخالطه، سواء داخل الأسرة، أو في العمل، أو في المعاملات ونحو ذلك، ومن يسجل كل ذلك للناس ولا ينسى شيئاً منه، كأنه يكلفهم الكمال والعصمة، وذلك عكس ما جبلوا عليه، فالإنسان عرضة للخطأ والتقصير، فيجب أن يتغاضى له عن بعض ذلك مما جرت عادة أهل الفضل بتناسيه، ومن لا يستعد لنسيان شيء من تلك الملحوظات، فليستعد لفقد الصداقات والعلاقات، وصدق من قال: إذا كنت في كل الأمور معاتباً خليلك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدا أوصل أخاك فإنه مقارف ذنب مرةً ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه..