في صباحٍ لا يختلف في ظاهره عن صباحات الصحراء المعتادة، حيث تتقاطع نسماتٌ خفيفة مع وهج الشمس الحادة، انبثق صوت مختلف، صوت لا يشبه صخب الآلات، ولا صدى الأسواق النفطية، كان صوتًا يحمل نبرة الحياة، نداءً أخضر، وكأن الأرض نفسها قد قرّرت أن تنهض وتتنفّس. في لحظة فارقة، أعلنت المملكة العربية السعودية عن مبادرتها الاستراتيجية والجذرية: "السعودية الخضراء". إعلان عن مشروع بيئي، تجلٍّ حضاري، وفصلٌ جديد يُكتب بلغة الأرض والإنسان والمستقبل. لكن ماذا يعني أن تُطلق دولة وُلدت من رحم الصحراء، وشكّلتها الجبال والقيظ والرمال، مبادرةً بيئية بهذا الحجم وهذا الأفق؟ إنه ببساطة إعلان عن ولادة فلسفة جديدة؛ حيث تتحوّل المملكة من دولةٍ لطالما عُرفت بمواردها الأحفورية، إلى دولةٍ تُصدّر الرؤية، وتزرع الأمل، وتُعيد تعريف علاقتها بالكون من حولها. ضمن إطار رؤية السعودية 2030، تلك الوثيقة التاريخية التي وضعت أسس التحوّل الوطني، وُلدت مبادرة "السعودية الخضراء" كروح تنبض من قلب الرؤية، تعيد بناء العلاقة بين الإنسان والبيئة، وترسّخ مبدأ أن البقاء لا يكون على حساب الطبيعة، البقاء بالشراكة معها. هذه المبادرة تكون قصيدة تنمو من بين الأغصان، ووعدٌ مكتوب بحبر الحياة؛ فزراعة 10 مليارات شجرة بمثابة كفعل إنقاذ نبض أخضر يعيد للأرض ما استنزفه الزمن، ويمنح المناخ فرصة للشفاء، والتربة فرصة للخصوبة، والهواء فرصة لأن يُستعاد من ضجيج الانبعاثات. وفي المقابل، تمضي المملكة نحو إعادة تأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي، وتحويل 30 % منها إلى محميات طبيعية. هدف المبادرة من غرس الأشجار تحقيق مناخ مستقر. وفي مواجهة هذا التحدي، التزمت المملكة بخفض 278 مليون طن من الانبعاثات الكربونية سنويًا، عبر منظومة دقيقة من الابتكار البيئي، تشمل تقنيات الطاقة النظيفة، وتطوير مصادر الطاقة المتجددة، ورفع كفاءة الاستهلاك. والغاية اقتصاد أخضر لا يُنتج على حساب الحياة، ولا ينمو على أنقاض المستقبل. اقتصاد يربح ويُراكم، دون أن يُقصي الأشجار أو يسحق التنوّع البيولوجي. إنه اقتصادُ الوفرة المتصالحة مع الطبيعة. مشروع "السعودية الخضراء" هو حيّ يسير على قدمين، ويُزرع في كل بقعة من الوطن. ملايين الأشجار بدأت تشق طريقها إلى التربة، في المدن والقرى والسهول والجبال، ترافقها برامج بيئية لإحياء الأودية، واستعادة التربة، وحماية الكائنات التي شاركتنا الأرض منذ الأزل. أطلقت المملكة مبادرات لإعادة توطين الأنواع المهددة بالانقراض، وكأنها تعيد كتابة النشيد الأول للحياة، حيث لكل كائنٍ دور، ولكل صوتٍ حق في أن يُسمع من جديد. وفي المدن، أصبحت البنية التحتية جزءًا من الخطة الخضراء، لتصبح المدن السعودية بيئة متكاملة يتنفس فيها الإنسان والنبات، وتتصافح فيها الحضارة مع الطبيعة. ثم جاء الإعلان المفصلي: الحياد الكربوني بحلول عام 2060. فبعثت "السعودية الخضراء" رسالة كونية، تنطلق من أرضٍ طالما كانت مقرونة بالبترول، لتصبح اليوم منارة للرؤية البيئية العالمية. وفي كلماتٍ بليغة، لخّص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الفلسفة العميقة للمبادرة: "تنطلق المبادرة من مسؤوليتنا تجاه الأجيال القادمة، وحرصنا على بناء مستقبل أكثر استدامة للجميع." تصريح لا يُخاطب اللحظة فحسب، يُحاور الزمن الآتي، زمن الأبناء والأحفاد، وزمن الأرض وقد بُوركت بالرعاية. سيأتي يوم، يقرأ فيه طفل سعودي في كتبه المدرسية عن مرحلةٍ تحوّلت فيها المملكة من صحراء تتأمّل النجوم، إلى أرضٍ تُنبت الغابات وتغنّي للغد. مرحلةٌ أصبحت فيها البيئة ركيزة في الهوية الوطنية، والخضرة جزءًا من الروح الجمعيّة. "السعودية الخضراء" إنها رواية الأرض الجديدة - قصة تُكتب من الرمال، وتُروى بالماء، وتُزهر في الهواء. قصة تقول إن الجغرافيا ليست قدرًا، وإنّ الإرادة الخضراء تستطيع أن تبعث الحياة حتى في أقسى المناخات. وفي زمنٍ يُهدّد فيه التغيّر المناخي استقرار البشرية، تقف المملكة بثبات، وفي يدها غصن شجرة، وفي الأخرى مفاتيح المستقبل المستدام، فمن هنا، من عمق الصحراء، تُصاغ ملامح الغد.