تقوم الدراسات الإعلامية المعاصرة على عدد من المدارس الفكرية التي يندرج في إطارها مجموعة من مناهج البحث العلمية والنقدية. ومن أقدم وأهم تلك المدارس الفكرية (المدرسة الخطابية). تعود أصول المدرسة الخطابية في الفكر الغربي إلى العصر اليوناني القديم وبالتحديد إلى كتاب (الخطابة The Rhetoric) لأرسطو. فما يُعرف اليوم بالمدرسة الخطابية هو امتداد للأسس التي وضعها أرسطو لعلم الخطابة بوصفها نشاط إنساني يهدف في الأساس إلى الإقناع. لقد وضع أرسطو أول إطار نظري متكامل لدراسة فن الإقناع والإلقاء أمام الجمهور، وربطه بدراسة المنطق والأخلاق والسياسة. قال أرسطو إن الخطابة هي: فن اكتشاف وسائل الإقناع المتاحة في أي قضية كانت. بمعنى أنها فن يقوم على البحث عن الوسائل الممكنة للإقناع في أي موضوع. وقال إن هناك ثلاثة أنواع من الأدلة يمكن استخدامها في الإقناع هي: أولاً، الأدلة المنطقية وهي الحجج العقلانية والبراهين الواضحة لإقناع الجمهور. ثانياً، الأدلة العاطفية وهي إثارة عاطفة الجمهور وأحاسيسه من أجل التأثير على قراراته وسلوكياته مثل إثارة الخوف أو الأمل أو الغضب أو الشفقة وغير ذلك. ثالثاً، الدليل الشخصي وهو مصداقية الخطيب نفسه من خلال علمه بالموضوع وحكمته في التعامل مع الجمهور وحسن نواياه تجاههم. ثم حدد أرسطو مراحل بناء الخطبة ومكوناتها الأساسية، وقال إن الخطابة تقوم على خمسة أركان هي: أولاً، إيجاد الحجج المناسبة للإقناع، أي جمع المعلومات والبراهين التي يرى المتحدث أنها ستكون مقبولة لدى الجمهور. ثانياً، الترتيب، وهو تنظيم الخطبة إلى أجزاء واضحة ومتسلسلة منطقياً، وتكون في الغالب على شكل مقدمة ووسط وخاتمة. ثالثاً، الأسلوب، وهو اختيار الصياغة اللغوية المناسبة من حيث وضوح المعنى وفصاحة الكلمات. رابعاً، الذاكرة، وتعني القدرة على حفظ الخطبة قبل إلقائها أمام الجمهور وسرعة البديهة والارتجال إذا تطلب الأمر ذلك. خامساً، الإلقاء، وهو تقديم الخطبة فعلياً أمام الجمهور مع التحكم بالصوت وحركات الجسم. وبهذا قدم أرسطو نظرية متكاملة للخطابة والإقناع والشكل الفني للخطبة مما جعل كتابه أساساً لمعظم الدراسات البلاغية والأدبية التي جاءت بعده عبر العصور. وقد واصل اتباع أرسطو في العصرين اليوناني والروماني تطوير هذا التراث عبر دمج البلاغة والخطابة بالفلسفة والسياسة والقانون. واستمر الاهتمام بكتاب (الخطابة) لأرسطو عبر العصور الوسطى، وعصر النهضة، والعصر الحديث كجزء أساسي من دراسة البلاغة والأدب. أما في القرن العشرين فقد حدث تحول مهم في الاهتمام بكتاب (الخطابة) لأرسطو. ارتبط هذا التحول بنشأة ما صار يعرف الآنباسم دراسات (الاتصال الخطابي) speech communication. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت دراسة البلاغة الكلاسيكية، وبالأخص أرسطو، محصورة في أقسام الأدب الإنجليزي والفلسفة، حيث كان ينظر إليها بوصفها جزءاً من التراث الإنساني القديم. لكن مع ظهور الجامعات الحديثة في أمريكا ، وتطور وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وسينما، بدأ التفكير في تحويل تدريس فن الخطابة من مجرد مهارة أدبية إلى حقل أكاديمي مستقل يدرس الخطاب بوصفه عملية اتصال أساسية في المجتمع. وبعد تأسيس (علم الاتصال ودراسات الإعلام) في القرن العشرين، لم يعد كتاب (الخطابة) لأرسطو مجرد نص فلسفي قديم، بل أصبح مرجعاً عملياً لتفسير وتحليل مختلف أشكال الخطاب الجماهيري والمضامين الإعلامية. على سبيل المثال، أصبح من المعتاد تطبيق نظرية أرسطو في الإقناع على الخطب السياسية، والإعلانات التجارية، وحتى المسلسلات والأفلام، والأغاني المصورة. وذلك لاستكشاف ما تنطوي عليه من براهين عقلية واستمالات عاطفية وجاذبية شخصية، وتحليل مكوناتها وترتيب أجزائها ومدى وضوح مضامينها. وكمثال توضيحي سريع، يمكن تطبيق نظرية أرسطو في الاتصال الخطابي على خطب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب. ترى الباحثة جنيفر ميرسيكا Jennifer R. Mercieca أن سر نجاح دونالد ترمب يكمن في بلاغته. فقد عرف كيف يقدّم نفسه كرجل مختلف عن السياسيين التقليديين: رجل أعمال ناجح وصريح يقول ما يفكر فيه دون مجاملة. هذه الصورة جعلت كثيراً من أنصاره يثقون به، ويرونه صوتاً للشعب ضد (النخبة) و(المؤسسات التقليدية). الأهم من ذلك أن ترمب كان بارعاً في مخاطبة العاطفة. فاستخدم شعار: (لنجعل أمريكا عظيمة من جديد) وهي لم تكن مجرد كلمات، بل رسائل مشحونة بالفخر الوطني وبالغضب من الأوضاع القائمة. كما كان يختزل القضايا المعقدة في جمل قصيرة وبسيطة مثل (ابنوا الجدار!) لمنع المهاجرين غير الشرعيين. وهي عبارات يسهل ترديدها ونشرها في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. واعتمد على تقسيم المجتمع إلى (نحن) و(هم)، كما استخدم السخرية والإهانات ضد خصومه السياسيين والإعلاميين، مما زاد من حماس أنصاره. ختاماً، نظرية أرسطو في الخطابة والنقد الخطابي لا تزال واحدة من أقوى النماذج في تحليل الخطاب الإعلامي.