حين يشرع الشاعر في نظم قصيدته تكون أمامه خيارات عديدة ومتنوعة تسمح له باختيار ما يُناسب حالته النفسية والشعورية وانتقاء الألفاظ والتراكيب والصور المناسبة، أو التي يظن هو أنها مناسبة للتعبير عن مشاعره وأفكاره أو لإيصال ما يود إيصاله للمتلقي. عملية الاختيار التي يقوم بها الشاعر لا تكون واضحة أمام عين المتلقي الذي لا تُتاح له معرفة تلك الخيارات أو الاطلاع على مسودات القصيدة إلا نادراً، لذلك يحاول بعد تلقيها القيام بأبسط حقوقه وهو إبداء وجهة نظره في أبياتها، وتقديم اقتراحات يعتقد بأنها أفضل وأنسب من اختيارات الشاعر، وكثيراً ما تأتي اقتراحات المتلقي في صيغة أمنية يقول فيها: «لو قال الشاعر كذا»، أو تأتي بصيغ أخرى يحاول فيها المتلقي فرض رؤيته على الشاعر بعبارات من نوع: «كان ينبغي أن يقول كذا». ومن الشواهد الكثيرة التي تغص بها كتب تراث النقد العربي تعليق يزيد بن عبد الملك على بيت جرير الذي يقول فيه: هذا ابن عمّي في دمشقَ خليفةٌ لو شئتُ ساقكُمُ إليّ قطينا فعندما استمع يزيد إلى البيت قال: «أما ترون جهل جرير، يقول لي: ابن عمّي، ثم يقول: لو شئت ساقكم، أما لو قال: لو شاء ساقكم، لأصاب، ولعلّي كنت أفعل»! ما أكثر الأبيات التي يقول المتلقي عند قراءتها: «لو قال الشاعر هذه الكلمة بدل تلك لصار البيت أفضل وأجمل مما هو عليه»، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الاقتراح الذي يقدمه أفضل من اختيار الشاعر، ومن النماذج التي أتذكرها في الشعر الشعبي ما كتبه أحد القراء تعقيباً على إشادة الشاعر تركي المريخي ببيت معروف للشاعر الحميدي الحربي يقول فيه: ما عاد أنا الطفل الذي تخبرينه يزعل وترضينه متى ما بغيتي فقد اعترف المتلقي بدايةً بشاعرية الحربي، لكنه رفض هذا البيت بصياغته الحالية، ورأى فيه خللاً يحتاج إلى إصلاح، وأضاف: «ولكي تستقيم الصورة الإبداعية في هذا البيت أرى أنه لو قال: ما عاد أنا الرجل الذي تخبرينه يزعل وترضينه متى ما بغيتي أو قال: ما عاد أنا ذاك الذي تخبرينه يزعل وترضينه متى ما بغيتي كان أبلغ من البيت الحالي»! في حالات مُعينة يكون أمام الشاعر فرصة للدفاع عن اختياره كما حدث في إحدى حلقات برنامج (شاعر الملك)، فقد انتقد الدكتور سعود الصاعدي عدداً من الصور الشعرية في قصيدة الشاعر عبد الله عبيّان، وانتقد صياغة البيت الذي يقول: وخشوع شيخٍ يطلب الغفران فالثلث الأخير يسجد ودمع العين يسري بين دقنه وشنبه وقال الصاعدي: لو قلت: «بين جفنه وشنبه». ورأى أن صياغة البيت بحسب هذا الاقتراح ستكون أفضل، لكن الشاعر دافع عن خياره ودفع الناقد لترديد العبارة الشهيرة: «الشعراء أعلم بمضايق الشعر من النّقاد»! كثيراً ما تدل الاقتراحات التي يُقدمها المتلقي أو الناقد على حس نقدي رفيع، وكثيراً ما ينتج عنها سجالات نقدية ممتعة، وتبرعه بتقديمها لا يعني الرغبة في تخطئة الشاعر أو السعي لإثبات فشله في الاختيار، بل يُعبر -في الغالب- عن رغبة دفينة في المشاركة في العملية الإبداعية ورغبة في الوصول بالنص الشعري إلى ذروة الجمال والتميز. وأعتقد أن الشاعر المبدع هو الذي لا يدع أمام المتلقي مجالاً لكي يقول: «لو قال الشاعر كذا لكان أفضل»، ولا يحدث هذا الأمر إلا باجتهاده في تجويد وتنقيح قصيدته، وبحرصه الشديد على مراجعتها مراراً وتكراراً قبل أن ترى النور. تركي المريخي الحميدي الحربي سعود الصاعدي عبدالله عبيان