لم تعد مسألة غياب الطلاب والطالبات عن مقاعد الدراسة حدثاً عابراً تتعامل معه المدارس بروح التساهل أو بالاكتفاء بالاتصال بولي الأمر، ففي هذا العام الدراسي، وضعت وزارة التعليم ملف الغياب تحت دائرة الضوء، مُصدرة لائحة جديدة مشددة جعلت من الانضباط المدرسي معياراً أساسياً للانتقال بين الصفوف. هذه اللائحة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت استجابة لتنامي ظاهرة الغياب، خاصةً في بدايات الفصول الدراسية أو أيام ما قبل الاختبارات، وما يترتب عليها من فاقد تعليمي يهدد مسيرة الطالب ويضعف مخرجات العملية التعليمية برمّتها. وبحسب الضوابط المعلنة، فإن تجاوز الطالب نسبة 10% من أيام العام الدراسي بدون عذر –أي ما يعادل ثمانية عشر يوماً تقريباً– يعني حرمانه من الانتقال في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة لا ينتقل إلى العام الدراسي التالي، وفي المرحلة الثانوية لا ينتقل إلى الفصل الدراسي التالي، ولم يعد الأمر إذن خياراً بيد المدرسة أو مرونة قابلة للتقدير، بل أصبح إجراءً نظامياً ملزماً تُتابعه الوزارة بدقة عبر نظام «نور» الذي يسجل حضور وغياب الطلاب بشكل يومي ويرسل إشعارات فورية لأولياء الأمور. حزم ومخاوف ودافعت وزارة التعليم عن هذا التشدد بأن الهدف ليس العقوبة بل الحد من الهدر التعليمي وتعزيز الجدية، ففي تصريح رسمي بثّ عبر القنوات الإعلامية، جاء التأكيد الواضح: إذا تجاوز غياب الطالب دون عذر نسبة 10%، يُحرَم من الانتقال سواء للصف التالي -في الابتدائية والمتوسطة- أو للعام الدراسي التالي في الثانوية، بين هذا الحزم الرسمي ومخاوف أولياء الأمور الذين يخشون من انعكاس الإجراءات على نفسيات أبنائهم، تتشكل اليوم صورة مثيرة للجدل حول الانضباط المدرسي، فهل نحن أمام سياسة رادعة ستعيد الانتباه لقيمة الحضور؟، أم أن اللائحة قد تفتح باباً لمعاناة إضافية للطلاب في مواجهة ظروف صحية أو أسرية قد تفرض الغياب؟. مساحة مرونة وروى أبو ريان -موظف في شركة خاصة- تجربته مع ابنيه الطالب في الصف الأول الثانوي والآخر في الثاني متوسط قائلاً: ما مر إلاّ يومين على بداية الدراسة حتى توفي والد زوجتي، اضطريت أسافر مع العائلة للقصيم لحضور العزاء ثلاثة أيام، ولما رجعنا، اكتشفت أن غياب ابني ريان سُجل بالكامل، ومعه إنذار أول، مضيفاً: كنت متوقعا أن مثل هذه الظروف تُستثنى تلقائياً، لكن الموجّه الطلابي قال لي بالحرف: «النظام الجديد ما يستثني إلاّ إذا رفعت شهادة وفاة عبر المنصة وبالتاريخ نفسه»، مبدياً عدم اعتراضه على الهدف العام من القرار، لكنه يرى أن تطبيقه من دون أي مساحة مرونة يظلم الأسر، مؤكداً على أن الضغط النفسي أصبح مضاعفاً، بين الحزن العائلي والقلق من الرسائل الإلكترونية التي تنهال علينا من المدرسة. تقرير إلكتروني ولم يمضِ على بدء العام الدراسي سوى ثلاثة أيام، حتى استيقظ عبدالعزيز -طالب الصف الأول المتوسط- وهو يعاني من ضيق تنفس شديد، تقول والدته: إن الأطباء يوصون غالباً براحة يومين أو ثلاثة بعد أي أزمة تنفسية، لكنها فوجئت بأن المدرسة طلبت منها رفع العذر إلكترونياً في اليوم نفسه، مضيفةً: «أنا مع الانضباط، لكن من غير المنطقي أن يُطلب مني رفع أوراق فورية وأنا وسط قسم الطوارئ، هل يعقل أن تكون أولوية الأم في هذه اللحظة رفع تقرير إلكتروني؟، أنا لست ضد النظام، لكن مشكلتي أن ابني مريض خاصةً في أوقات تقلب المواسم، وأخاف أن يتراكم عليه الغياب حتى لو بعذر، متأسفةً أن من سيدفع الثمن هو مستقبله الدراسي». أنا مع القرار وأوضحت هدى الرشود -معلمة ووليّة أمر لطالبين في المرحلة الابتدائية- أن هذه القرارات كانت بمثابة الجرس المنقذ منذ اليوم الأول، حيث أن بعض الطلاب يغيبون بحجة أنهم لم يتأقلموا بعد، أو لأن أهلهم يمددون إجازاتهم، إلاّ أن هذا العام كان مختلفاً، الجميع حضروا من أول يوم لأنهم علموا أن كل يوم محسوب بدقة. وعن الأهالي المتذمرين من الصرامة، قالت: أتفهم مشاعرهم، خاصةً من لديهم ظروف أو أبناء مرضى، لكن الاستثناءات مكانها الصحيح هو المستشفى واللجان الرسمية، لا أن تتحول المدارس إلى ساحة تفاوض يومي، فإذا فتحنا باب الأعذار بلا ضابط، سنعود لنفس الفوضى القديمة، مختتمةً: أنا مع القرار حتى لو كان قاسياً، فالتربية تبدأ بالانضباط، وإذا لم نتعلم الالتزام من المدرسة، فمتى سنتعلمه؟. طريقة توازن وغاب عبدالله السعيد -طالب في الصف الرابع الابتدائي- عن المدرسة يوماً واحداً فقط، والسبب أن والدته تعمل ممرضة في مستشفى حكومي واضطرت أن تأخذه معها للانتظار هناك؛ لأنها لم تجد من يرعاه في المنزل، يحكي قائلاً: لم أكن مريضا، بس جلست مع والدتي في المستشفى، ولم أستطع الذهاب إلى المدرسة، وفي اليوم الثاني قال لي الأستاذ: لابد أن تأتي بورقة عذر!. وأصيبت سارة القصيَّر -طالبة في الصف الثاني متوسط- بصداع نصفي شديد ولم تقدر الذهاب إلى المدرسة، لتصل رسالة إلى والدتها بتسجيل غياب، لتواجه زميلاتها في اليوم التالي ويقلن لها: «ترى إذا غبتي كثير ممكن يحرمونك من الاختبارات». خالد الهداب -طالب في الصف الأول الثانوي- كان يرافق والده لإجراء عملية بسيطة في أحد المستشفيات، فاضطر أن يغيب يومين متتاليين، تحدث قائلاً: «أنا فاهم النظام، 18 يوما يعني ما انتقل، أنا مع الانضباط، بس أشعر أن اللائحة تركز على العقوبة أكثر من المساندة، نحتاج طريقة توازن بين الالتزام والظروف الإنسانية». تسجيل مباشر وقالت نورة الجهني -موجهة طلابية-: اليوم لم يعد الغياب يمرّ مرور الكرام، بمجرد أن تتغيب الطالبة عن حصة أو يوم دراسي، يسجل النظام مباشرة ويصل إشعار إلى ولي الأمر في اللحظة نفسها، لكن مسؤوليتها لا تتوقف عند التنبيه الإلكتروني، فنحن نتواصل عادةً في اليوم نفسه عبر اتصال هاتفي مباشر، وإذا تكرر الغياب نطلب حضور ولي الأمر لمناقشة الأسباب، وأحياناً نضع برامج دعم؛ حصص تقوية للطالبات المتأخرات دراسياً، أو جلسات إرشاد إذا كان الغياب مرتبطاً بظروف نفسية أو مشاكل أسرية، مبينةً أن التحدي الأكبر هو كثرة الحالات وتنوعها، مما يضع عبئاً ثقيلاً على المدرسة، مشيرةً إلى أنه دورهم ليس العقاب، بل يحاولن احتواء المشكلة قبل أن تصل إلى مرحلة الحرمان التي تنص عليها اللائحة، نبدأ بخطابات رسمية، ثم تعهدات، وأحياناً زيارات منزلية. بدائل داعمة وتحدثت د.أريج الراشد -أخصائية نفسية تربوية- قائلةً: إن المشكلة لا تُقرأ فقط كإهمال أو كسل من الطلاب، بل قد تكون انعكاساً لمشكلات خفية، فحين نرى طالبة أو طالباً يتجاوزون حدود الغياب المسموح، علينا أن نسأل: ما السبب؟، قد يكون وراءه تنمّرا خفيا داخل الصف، أو عزوفا عن مادة دراسية يجدها الطالب صعبة، أو حتى ضغوط أسرية كخلافات منزلية أو مسؤوليات مبكرة يتحملها بعض الأبناء، مشددةً على أن الردع ضروري لكنه ليس الحل الوحيد، فالنظام يضع إطاراً للانضباط، لكن الأهم هو ابتكار بدائل داعمة، وبرامج تحفيزية للحضور، ودمج الطلاب في أنشطة صفية ولا صفية تزيد من انتمائهم، وكذلك توفير دعم نفسي منتظم للذين يمرون بظروف خاصة، فحين يشعر الطالب أن المدرسة بيئة آمنة ومُشجعة، تقل دوافع الغياب بشكل طبيعي، مختتمةً بقولها: «من المهم أن تعمل المدرسة بفريق متكامل بين الموجه الطلابي والأخصائي النفسي والاجتماعي، وليس كل غياب يعني كسل، فأحياناً يكون استغاثة صامتة من الطالب، وهنا نحتاج أن نسمع أكثر قبل أن نحاسب». التربية والإبداع يبدآن بالانضباط حضور الطالبات إجراء نظامي ملزم تُتابعه وزارة التعليم