يعد التعليم عن بُعد أحد أبرز التحولات التي شهدتها المنظومات التعليمية حول العالم، فمع التطور التكنولوجي المتسارع، لم يعد الحصول على المعرفة مقتصرا على الفصول الدراسية التقليدية، بل أصبح متاحا عبر منصات إلكترونية تتيح للطلاب التعلم من أي مكان وفي أي وقت. وفي السعودية، تم الاعتراف رسميا بشهادات التعليم الإلكتروني (عن بعد) ومساواتها بشهادات التعليم الحضوري، وهو ما يعكس التزام الدولة بدمج هذا النمط التعليمي في منظومتها الأكاديمية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يحقق التعليم عن بعد -بالفعل- العدالة في الوصول إلى الجودة التعليمية للجميع؟ من جهة، يمثل التعليم عن بعد فرصة ذهبية لتحقيق عدالة الوصول للمتعلمين في المناطق النائية أو الذين يواجهون ظروفا تمنعهم من الحضور المادي للمؤسسات التعليمية، فهو يكسر حواجز المسافة والتنقل، ويفتح الأبواب أمام فئات لم تكن لديها الفرصة لاستكمال تعليمها. هذه المرونة ليست مجرد ميزة شكلية، بل هي أساس تمكين شرائح واسعة من المجتمع من اكتساب المهارات والمعارف الضرورية لتحسين جودة حياتهم والمساهمة في التنمية. ومع ذلك، لا يمكن إغفال التحديات التي قد تؤثر على جودة التعليم عن بعد، وبالتالي على عدالته. فالوصول إلى التعليم الجيد لا يقتصر على توفر المحتوى، بل يشمل أيضا توفر الأدوات اللازمة لاستقبال هذا المحتوى. فالفجوة الرقمية مازالت تشكل عائقا كبيرا، حيث قد لا يمتلك بعض الطلاب الأجهزة الإلكترونية المناسبة أو الاتصال بالإنترنت عالي السرعة، ما يحرمهم من الاستفادة الكاملة من الموارد التعليمية المتاحة. علاوة على ذلك، يفتقر التعليم عن بعد أحيانا إلى الجوانب التفاعلية التي يوفرها التعليم الحضوري، مثل النقاشات المباشرة والتفاعل وجها لوجه مع المعلمين والزملاء، والتي تعد حيوية لتنمية المهارات الاجتماعية والتفكير النقدي. في المقابل، تعد أمانة الاختبارات وجودتها حجر الزاوية في أي نظام تعليمي يسعى للمصداقية. ولضمان ذلك في سياق التعليم عن بعد، يمكن تطبيق نموذج هجين يجمع بين مزايا التعلم عن بعد وضمان جودة التقييم. فبينما يتم التعلم عن بعد بمرونة، يمكن أن تجرى الاختبارات النهائية بشكل حضوري في مراكز معتمدة، وتحت إشراف جهة مسؤولة محايدة. هذا الإجراء يضمن أن التقييم يعكس الأداء الفعلي للطالب، ويمنع أي محاولات للغش أو الاحتيال، ما يحمي قيمة الشهادة التعليمية ويدعم الثقة في مخرجات التعليم عن بعد فالجمع بين المرونة في التعلم والصرامة في التقييم يمثل حلا مبتكرا لتحقيق أقصى درجات العدالة والجودة. * بصائر: جودة التعليم لا تكمن في نمطه (حضوريا كان أو عن بعد)، بل في فعالية المناهج، وكفاءة المعلمين، ودعم البيئة التعليمية.. وإذا تم توفير كل هذه العناصر في بيئة التعليم عن بعد، فإنه سيصبح أداة قوية لتحقيق العدالة في الوصول إلى المعرفة، وتمكين الأفراد من بناء مستقبل أفضل لأنفسهم ومجتمعاتهم، فالتعليم عن بعد ليس مجرد بديل، بل هو مسار موازٍ يمكنه أن يعزز الشمولية ويسهم في بناء مجتمع المعرفة المنشود.