تُعد المملكة العربية السعودية واحدة من أغنى الدول بالتراث الثقافي غير المادي، حيث تنبض أرضها بتنوع عاداتها وتقاليدها وفنونها الشعبية التي ورثتها الأجيال جيلًا بعد جيل، لتصبح هوية حية تعكس تنوع المجتمع السعودي وتماسكه. وإننا حينما نتحدث عن التراث اللامادي، فلكونه ليس مجرد ممارسات قديمة، بل هو ذاكرة جماعية تعكس علاقة الإنسان ببيئته، وتؤكد دوره في صياغة ملامح حضارية متجددة تواكب العصر. ويأتي هذا الانسجام مع ما أكدت عليه رؤية المملكة 2030 التي جعلت من الثقافة أحد محركات التنمية الشاملة، من خلال الاستراتيجية الوطنية للثقافة التي تهدف إلى إبراز الهوية السعودية الغنية، وتعزيز حضورها عالميًا، ودعم نقل الموروث الثقافي إلى الأجيال القادمة، بما يسهم في تحقيق مستهدفات برنامج جودة الحياة وتنمية قطاع السياحة الثقافية كأحد أهم روافد الاقتصاد الوطني. الفنون الشعبية: إيقاع الحياة وروح المجتمع. من أبرز عناصر التراث اللامادي في المملكة الفنون الشعبية التي تعكس تنوع المناطق واختلاف خصوصياتها الثقافية. وتأتي العرضة السعودية في مقدمة هذه الفنون، إذ تمثل رقصة الحرب القديمة التي تؤدى بالسيوف على إيقاعات الطبول، وتُعد رمزًا وطنيًا جامعًا يوظف في المناسبات الرسمية والاحتفالات الوطنية. أما المزمار الحجازي، فهو فن شعبي عريق يتميز بإيقاعاته القوية وحركاته الجماعية التي تعكس روح الفرح والتلاحم، فيما تحضر الخطوة الجنوبية والدمة كأمثلة لفنون منطقة عسير وجازان، التي تعكس بدورها التنوع الثقافي المرتبط بالطبيعة الجبلية والبحرية. وتؤدي هذه الفنون أدوارًا اجتماعية مهمة، إذ تجمع الناس في مناسبات الأفراح والأعياد وتُرسّخ الانتماء للمكان. الحرف اليدوية والصناعات التقليدية تعد الحرف اليدوية من أهم مكونات التراث الثقافي غير المادي في المملكة، حيث توارثها الحرفيون عبر قرون لتبقى شاهدة على مهارتهم وارتباطهم بالبيئة. ومن أبرز هذه الحرف صناعة السدو، وهو النسيج التقليدي الذي اشتهرت به النساء في نجد، ويُستخدم في صناعة الخيام والبسط والوسائد بألوان وزخارف مميزة. كما برع السعوديون في صناعة الفخار والأواني الحجرية، إضافة إلى الخط العربي الذي يعد فنًا أصيلًا ارتبط بالهوية الإسلامية والثقافة المحلية، وقد حظيت هذه الفنون باهتمام خاص خلال عام الحرف اليدوية 2025 الذي أطلقته وزارة الثقافة ليكون منصة وطنية لإبراز دور الحرفيين وإحياء مهاراتهم عبر مهرجانات وورش ومعارض، كان أبرزها الفعاليات التي نُظمت في وادي ليسان بالرياض وعدد من المدن مثل جدة وأبها وحائل. العادات والتقاليد: قيم متوارثة إلى جانب الفنون والحرف، يبرز في التراث اللامادي السعودي العديد من العادات الاجتماعية التي تُشكّل هوية المجتمع. فالكرم العربي وطقوس القهوة السعودية مثال حي على التقاليد التي ما زالت تمثل جزءًا من الحياة اليومية. ويُعد تقديم القهوة بالتمر رمزًا للترحيب والاحترام، وقد جرى تسجيلها في قائمة التراث غير المادي لليونسكو عام 2015 بالشراكة مع دول خليجية أخرى. كما يشكل المجلس السعودي تقليدًا اجتماعيًا أصيلًا، حيث يجتمع فيه أفراد العائلة والجيران لتبادل الحديث وحل المشكلات ومناقشة شؤون الحياة. الأدب الشفهي: صوت الحكمة الشعبية يحضر الأدب الشفهي كأحد أهم ركائز التراث غير المادي في المملكة، فالقصائد النبطية والأشعار الشعبية ما زالت تُلقى في المناسبات الاجتماعية وتعبر عن قيم الفخر والشجاعة والوفاء. وقد لعبت القصيدة النبطية دورًا مهمًا في توثيق تاريخ المجتمع البدوي وأحداثه، فيما يعكس المثل الشعبي خلاصة حكمة الأجداد وتجاربهم. كما تشهد منطقة عسير مبادرات رائدة في هذا السياق، مثل ورشة "عسير.. نحن التراث الحي" التي نظمتها جمعية التراث غير المادي لتعزيز تفاعل الشباب مع تراثهم عبر الإعلام الرقمي، وتشجيعهم على التوثيق السليم للذاكرة الشعبية بمشاركة الخبراء. حماية التراث: من الماضي إلى المستقبل لم تكتفِ المملكة بالحفاظ على تراثها اللامادي بوصفه إرثًا تقليديًا، بل جعلت منه ركيزة للتنمية الثقافية. فقد عملت وزارة الثقافة وهيئة التراث على تسجيل العديد من العناصر في قوائم التراث العالمي لليونسكو مثل العرضة السعودية والقهوة العربية والسدو. كما وُقعت شراكات مهمة، أبرزها مذكرة التفاهم بين المعهد الملكي للفنون التقليدية (ورث) وهيئة تطوير منطقة عسير لتعزيز تعليم الحرف التقليدية وتمكين الحرفيين، وخاصة المرأة، من الاستفادة الاقتصادية من التراث. وعلى المستوى الدولي، شهدت مدينة العلا انعقاد مؤتمر نظّمته اليونسكو ومعهد العلا بعنوان "التراث الوثائقي والتنمية المستدامة" في أبريل 2025، بحث آليات توثيق التراث باستخدام التكنولوجيا وضمان إشراك المجتمعات المحلية. كما تستعد المملكة لاحتضان منتدى أكاديمي عالمي في نوفمبر 2025 حول تاريخ الحج والمسجدين الحرمين، بما يعكس مكانتها كحاضنة للتراث الإسلامي. إن التراث الثقافي غير المادي في المملكة ليس مجرد ماضٍ محفوظ، بل هو هوية حية ومتجددة تستمر في تشكيل وجدان المجتمع وتلهم أجياله الجديدة، ومن خلال مبادرات عام الحرف، وورش العمل الميدانية، والمؤتمرات الدولية، تؤكد المملكة التزامها بجعل تراثها رافعة التنمية الثقافية و جزءًا من حاضرها ومستقبلها، ورسالة حضارية للعالم عن غنى هويتها وأصالتها.